pregnancy

هويتنا 2






هويتنا 2

................
......................................................................

عندما نتحدث عن الثقافة السورية فنحن نتحدث عن شيء واحد متعدد المظاهر والتسميات، فالتفاعل الأول بين الإنسان والبيئة السورية أنتج الثقافة السورية، وهذه الثقافة تباينت قليلا من إقليم إلى آخر فظهرت اللهجات كون اللغة هي تاج الثقافة ومظهرها،

وتعددت الأسماء لذات الثقافة تبعا لمسميات المدن والأمكنة والآلهة والحكام. فعلى سبيل المثال لا يمكننا اليوم الحديث عن اللغة العراقية أو اللغة الحلبية لكن يحق لنا الحديث عن اللهجة العراقية واللهجة الحلبية، وهذا الأمر كان يحدث في الماضي أيضا إنما بتباين أعمق نتيجة ضعف التواصل الاجتماعي بين أنحاء الوطن مقارنة بالحاضر بسبب بدئية وسائل النقل والمواصلات آنذاك،

لهذا كان الإقليم يتمايز بلهجته ويتعمق بها حتى تكاد تكون لغير المدقق لغة مختلفة؛ وتأتي الاستقلالية السياسية لتعزز من التفرد الثقافي بمنح دولة الإقليم اسما لا علاقة له أحيانا بثقافة شعبه؛ وهكذا تحدث المؤرخون عن "اللغة الأكادية" بسبب وجود مدينة "أكاد" كما جرى الحديث عن اللغة الايبلاوية بسبب وجود مدينة "ايبلا" وهو أشبه بالحديث عن اللغة البغدادية واللغة الدمشقية

وهذا الخطأ مرده أن معظم المؤرخين يهتمون بالشأن السياسي أكثر بكثير من اهتمامهم بالشأن الثقافي؛ فالمؤرخ يفتخر بكشفه عن الأحداث التاريخية المثيرة أكثر من توغله في العمق الثقافي لكشف التماثل أو التشابه الثقافي بين هذا الإقليم وذاك. وقد استمر هذا الوضع حتى ظهرت علوم اللسانيات والصوتيات متأخرا نسبيا عن علم التاريخ ومنتشرة بشكل أقل مما أدى إلى رسوخ النظريات التاريخية ومعها النظريات الثقافية بشكل مغلوط.

لأن الصحيح أن الثقافي شيء والسياسي شيء آخر؛ فعلى سبيل المثال ظهور دولة (إسرائيل) المشؤوم عام 1948 لا يعني تحول ثقافة الشعب الذي يقطن الدولة (وهو الشعب السوري العربي) هناك إلى الثقافة العبرية 

إن تغير وتعاقب الدول لا يعني على الإطلاق تغير الثقافة، كما أن تعدد وتباين الثقافة الواحدة من إقليم إلى آخر لا يعني وجود ثقافة مستقلة لكل إقليم. وهذا الفهم يساعدنا على استيعاب وحدة الثقافة السورية وتعدد وجوهها في آن معا. وبالتالي يفسر لنا وجود ثلاث لهجات رئيسية في اللغة السورية وهي :

1.
اللهجة الآرامية الشرقية وهي السريانية

2.
اللهجة الآرامية الغربية (وتسمى الأمورية أي الغربية) وهي الكنعانية نفسها التي سميت لاحقا بالفينيقية 

3.
اللهجة العربية التي تميز بها السوريين الصحراويين وحواضر البادية السورية.
وسوف أسوق بعض الأمثلة لتوضيح الفكرة :
(إن كلمة :بيت" هي بيتٌ في العربية وبيتو في السريانية وبيتا في الفينيقية.
مثال آخر جملة "الجملُ يرعى العشبَ" هي بالسريانية "جملو روعي عسبو" وبالفينيقية "جملا روعي عسبا" أو غملا روعي عسبا" (*))

والأمثلة تطول عن المتماثلات والمتشابهات في اللهجات الثلاث.

مما سبق نستنتج أن كل من المصطلحات التالية : الثقافة السورية، الثقافة الآرامية، الثقافة العربية ما هي إلا مترادفات مرادفات لكيان ثقافي واحد هي ثقافة الوطن شرق حوض البحر المتوسط، كونها نتجت من أرومة ثقافية واحدة مثلت تفاعل الإنسان الذهني والعملي مع البيئة السورية المتنوعة.

ومع ذلك فإن الاكتفاء بمصطلح "الثقافة السورية" رغم كونه جامعا فقد يكون قاصرا عن إعطاء العمق التاريخي لثقافة مشرقنا العظيم، والصحيح أن نذكر الطبقات الثقافية السورية الثلاث أشملها وأكثرها تأثيرا اي الآرامية (بفروعها) والعربية (بفروعها) مع عدم إهمالنا لحالات ثقافية فرعية الفرعية (اي متفرعة عن الفرع نفسه) كثقافات الجزر (مثل ثقافة كريت ، مالطا، قبرص وغيرها) وثقافات الحدود (مثل ثقافة الغوتيين والكاشيين) والثقافات الدخيلة إلى الوطن السوري (مثل ثقافة الميتانيين والحثيين).

إذن فمصطلح "الثقافة السورية العربية الآرامية" مصطلح أقرب للعلمية كونه يحدد جغرافية وبيئة الوطن من جهة وتاريخية الثقافة السورية من جهة أخرى، وهي المتمثلة بالآرامية والعربية. كما أن تسبيق العربية على الآرامية يأتي فقط لحداثة عهد الثقافة واستمرارها لوقتنا الحاضر، وليس انتقاصا للثقافة الآرامية بشقيها السرياني الشرقي والكنعاني الفينيقي الغربي.
يتبع.......

(*)
أحمد داوود : تاريخ سوريا الحضاري (المركز)
علي حسين الحموي


شكرا لتعليقك