رسالة من شيخٍ إلى شاب ٍ
كتب القصّاص الروسي " تورغنيف" إلى أحد القصّاصين الروس , وهو قصّاص ناشىء هذه الرسالة :
" لقد جلبتَ انتباهي منذ أن ظهرت َ لأول مرة في الأدب بموهبتك الأصيلة , وكل كاتب شيخ محبٌ بإخلاص يسره أن يكتشف خلفاً له , وأنت واحد منهم ..."
هذه الرسالة البسيطة تحمل تعبيراً بليغاً يجدر بنا الانتفاع به .
ذلك شيخٌ من شيوخ الأدب و كان على قمة الشهرة والنبوغ , وقع على نتاج جديد لأديب ناشىء , لايزال يخط طريقه في البداية , فوجد في هذا النتاج ماحرّك ضميره الأدبي , ونزعته الفنية , فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا الجوهر الجديد , وهذه الموهبة الأصيلة التي تتفتح كزهرة في بواكير الربيع ! .
لم يقف الشيخ أمام هذه الموهبة موقف الغيور , الأناني الذي يخشى أن تزاحمه وتنافسه على عرشه , ولم ينهض إلى تحطيم هذه الجهود الفنية الموهوبة , بل راح يرحب بها كزهرة يخلقها ربيع جديد , لها لون خاص يميزها عن غيرها , وشذا مستقل يزيد روض الأدب ألواناً وعبقاً . بل نراه يشير ببساطة ووضوح إلى أنّ واجب شيوخ الأدب أن يستقبلوا بحفاوة هذه المواكب الجديدة, ويكشفوا بسرور عن هذه المواهب , ويشجعوا بوادرالنبوغ فيها, ويجدوا في كل أديب ناشىء محدث خليفة لهم , يحتلّ مكانهم , بعد أن يزول كيانهم , ويكمل رسالتهم التي لم يكملوها .
ماأوسع صدر الأديب الحقيقي ! وما أرحب عالمه الأدبي الذي يجعل من الأدب كلاً بتموجات أفكاره وعواطفه , دون النظر إلى أشخاصه .
إنه يعترف ضمناً بأن العبقرية نهر لاينضب , ولا ينقطع مسراه ! ولا تكون وقفاً على أديب دون أديب , ولاعلى فئة دون فئة .
أولم يكن هؤلاء الشيوخ شبانا يدرجون في طفولتهم الأدبية كما يدرج الأطفال ويعثرون كما يعثرون ؟
أولم يبدا هؤلاء الشيوخ كما بدأ هؤلاء الناشئون وراحوا ينمون مداركهم , ويوسعون ملاحظاتهم , وهم يشرفون على الحياة أطفالاً , ثم رجالاً ؟
أوليست هي سنة الزمان , وطبيعة التطور ؟
زهرة تسقط , وأخرى تتفتح لتحتل مكانها !
عقلية تنطوي بعد أن أدت رسالتها , وعقلية تبرز إلى الوجود لتحقق غايتها في الوجود ...
إن هذه الرسالة جديرة بأن يقراها شيوخنا الذين يغارون كل جديد , ويزدرون كل روح علمية إبداعية في الشباب , كأنهم ينسون أنهم يوم أن درجوا إلى هذا العالم الرحيب لم يكونوا إلا أطفالاً ... وهؤلاء الأطفال تغذوا بالأدب , ونمت ملاحظاتهم , ونضجت تأملاتهم , وكان لهم بعد ذلك أسلوبهم وأدبهم الذي بوأهم تلك المنازل التي يريدون أن يوصدوا أبوابها على غيرهم .
ومتى كانت العبقرية محدودة الأشخاص , مادامت الطبيعة كل يوم تلدُ ؟ ومتى كانت الأزهار تحرص على حياتها مادام الربيع يزول فصلاً , ويعود فصلاً آخر ؟
مهمة المفكر والأديب أن يدرك هذه الدورة التي لاتنتهي , وواجبه أن يعي مايستطيع أن يعيه في حياته الضيقة , ويعبر عنه تعبيراً صادقاً , وبذلك يكون أميناً لرسالته .
إن الفكر كالنور ...لايعرف الحدود , ولايحفل بالسدود ...
اكتبوا رسالة " تورغنيف" إلى كل ناشىء جديد
. ظهير الشعراني
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء