pregnancy

من الشعبوي إلى الشعبي مسافة وعي









من الشعبوي إلى الشعبي مسافة وعي 
.....................................................

يقرر معظم المفكرين والدارسين أن الشعبوية   (يمكن تعريفها كإيديولوجية، أو فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية. حيث يعتمد بعض المسؤولين على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات، الأرقام و البيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه، لذلك عادة ما يتم وصف الشعبويين بأنهم يتبعون معاداة الفكر أو يمارسون عبادة الجهل.
ومن أكبر النتائج الكارثية للشعبوية هو قدرتها على اقناع عدد كبير من الشعب وغالبا ما يشكلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء) (*).
لكن نضيف أن الشعبوية ليست حالة تتعلق بالنخب الحاكمة فقط بل هي قبل كل شيء تتعلق بالفئات والطبقات المحكومة، لأن الشعبوية لا يمكن أن تمارس على شعب واع مثقف، بل العكس الشعبوية شجرة فاسدة تخرج من القواعد الشعبية لتصل أوراقها القمة. فأكثر ما ترتبط به الشعبوية هي الطبقة الفقيرة والمسحوقة، فهناك تنتش بذور السوء المرمية من قبل القوى السياسية المتصارعة، هناك يتحول الحزب إلى قبيلة والفكرة إلى ذريعة والحاكم إلى مقدس، هناك يتحول الانتماء الطبيعي إلى طائفية أو قبلية أو إثنية، ويتحول المرح الطبيعي إلى سخرية متواصلة واستهزاء. 
في الأجواء الشعبوية تقمع الأفكار الحيادية لأنها قد تمثل ضعفا لدى الشعبويين، يقمع أصحاب الفكر لأنه يتحدثون بقوة المنطق وليس بمنطق القوة 
الحالة الشعبوية مليئة بالفخار المجوف، وبالتجاوزات والحتميات القاسية المستندة على  خرافات شعبية أو أساطير دينية . فيها يمتزج العلم بالخرافة ويظهر أنصاف المثقفين كأصحاب تيار فكري عملي غير قابل للنقد.
بالطبع الفساد السياسي والإداري يصفق للحالة الشعبوية لأنه ببساطة يعرف كيف يسيطر عليها، كيف يتحكم بها، وكيف يقمعها وقت الضرورة، فتحت مظاهر القوة الفجة الفردية والجماعية يقبع خوف مقيت ومبالغ به من السلطات الأعلى، حيث لا نقاش، ولا حوار؛ فقط أوامر تلقى ورغبات تحنى لها الهامات. شجرة الشعبوية تقوم إذن على وطنية مشوهة يعشعش بها الجهل لا يمكن أن تنبت الشورى والديمقراطية أو تتفرد بحلول، أو أن تفتح خطوة حسب التعبير الرياضي. ولأنها مسطحة الفكر سرعان ما تتلوث بالأخطاء والتجاوزات التي قد تصل حد الجريمة، وأمام أول موقف صعب سرعان ما تتحول إلى ناب للقضم وفم للأكل ويد للسرقة، تغادر البلاد وقت الضرورة، وتتصالح مع الأعداء الحقيقيين اذا لزم الموقف. يراهن الشعبويون على أن الأمور ستسير في المسار الخاطئ المنحرف، ولهذا تراهم  لا يترددون في لحظة الانفراد واليأس الخفي من رمي أنفسهم كاملة بمستنقع صنعوه معا دون وعي. 

لحسن الحظ أننا لسنا كلنا كذلك، ففي هذه البلاد أشجار عميقة مثمرة تعبق أزهارها سهول الغابات والجبال والصحاري؛ في هذا الوطن وقف أبطال على التخوم وعلى الثغور دافعوا حتى آخر قطرة وحتى آخر طلقة، يملؤهم إيمان حقيقي بالله ووعي فطري بالوطن ويقين كامل بأن لن يصح إلا الصحيح وأنه إن كان للباطل جولة فللحق جولات.
في هذه البلاد دافع الكثيرون عن أصواتهم عن كلماتهم التي كتبوها لنقد التهاوي وإيقاف السقوط، دفعوا ثمنا باهظا من حياتهم ثمنا لرفعة أوطانهم ومستقبلها، هؤلاء هم الشعب هم الذين يعبرون عن الحالة الشعبية لوطن انهكته الحرب والفقر والدماء.
بين الشعبيين والشعبويين بحار من الوعي وغمار من حنطة نقية من الصدأ والشوائب، الفارق ليس مجموعة من الكتب المقروءة والشهادات فحسب الفارق الأهم هو الموقف من الحياة بين أن تمضي ككائن بري لا تفوته فائتة أو كإنسان كوني يلهمه حبه وعزيمته لبناء الأوطان من الداخل قبل البهرجة من الخارج. يدفعه شغفه بألا يكون من زمن كان ومضى،  ولقمة التهمها أو التهم بها، بل أن يكون علامة فارقة رفضت الصمت في زمن رديء متخم بالرداءة.
لهذا لا يمكن التعويل على مظلة الشعبوية سواء تفيأ بها قادة أو جماهير لإطلاق نهضة وطنية كبيرة تكون المعادل الرياضي المعاكس لمأساة الوطن، لأن الشعبوية تمثل حالة الجماهير المفرغة من الأخلاق والمعاني والأهم من ذلك جدية الموقف. 

إن إعادة الاعتبار للإنسان كقيمة عليا وإعادة حماية الأسرة والنهوض الاقتصادي الاجتماعي المترافق مع تثقيف وطني وإنساني جاد وتعليم معرفي وعلمي معمق كفيل بإعادة الصفة الشعبية الواعية للفرد والمجتمع وهو العامل الأساس لأي نهوض.   
المسافة بين الشعبوي والشعبي هي المسافة بين من نذر نفسه لنفسه كيفما اتفق وبين من نذر نفسه للمستقبل الذي لن يرحمنا إن تجاهلناه، إنها مسافة وعي بامتياز .

(*) الشعبوية - ويكيبيديا 

علي حسين  الحموي
شكرا لتعليقك