pregnancy

الشاعر ميرزا مصطفى ميرزا في ذكرى رحيله









 الشاعر ميرزا مصطفى ميرزا 
.....................................................................................
 لروحه الرحمة والسلام  في ذكرى رحيله  
(1951   -  2015م )

"هذا الكون الحجري الأبعاد ..

غيوم دون ماء ..

سماء بلا فضاء .."

مرزا صاحب الشخصية اللطيفة المحببة .. يملك نفساً نقية طرية تزدحم بالحب والتسامح لكل الناس، في أعماق تكوينه جهل مطلق بالكره والحقد، لم تعلمه الحياة غير البسمة والأمل والغفران.. رحابة صدره وسع السماء والأرض، إساءة الغير إليه تعني عدم المبالاة والتجاهل والابتسامة اللطيفة.. ولكونه يملك قلباً رهيفاً رقيقاً، قلب عصفور تملكه البراءة، لم يستطع التعامل مع الصقور الجوارح ناهشة النفوس والأجساد، فباءت تجارته المادية بالفشل، وعاد مسرعاً إلى وكنات الشعر والأدب والعمل المدني الطوعي حيث وجد ما يلائم شخصيته وقناعاته التي يؤمن بها، فلا المال أغراه ولا الجاه جذبه، ولا المراتب العالية استطاعت أخذه إليها، بل بقي فارساً لامعاً يصول ويجول في ساحات الثقافة والفكر وروابي الشعر والقصيدة ..

" أيها الآت وداعاً .. لتملقات الماضي..

كفى تكاذباً .. كفى اعتداداً بماضي..

لم نساهم حتى في جمع أحجاره وحصاه ..

هذا عصر الكشف والوضوح وليس التلون..

وإغماض العيون .."

عندما أصدر ديوان شعره الوحيد في أوائل سبعينيات القرن الماضي تحت عنوان ( انقذوا الماء من الغرق) أثار هذا العنوان الغريب الجدل والنقاش وتنوع التحليل وقراءة ما وراء الكلمات، وما هو المقصود من هذا اللغز الجديد، وعندما كان يسأل عن ماهية العنوان يكتفي بالابتسامة وهز الرأس والمضي بعيداً، ولأنه اختار عنوانه بحرفية شديدة، كان العنوان صرخة فلسفية إنسانية وطنية تحذيرية، وقراءة مستقبلية إلى ما ستؤول إليه الأمور في وطن ذاب في جسد الشاعر وإحساس الأديب المثقف الواعي لهموم وطنه التي امتزجت بدمائه واستقرت في تفاصيل عقله وتفكيره، وطنه الحلم "سوريا نا" عشقه الأول وغنوصه الأهم، وهوى التاريخ العريق والماضي العظيم والحضارات التي ولدت من رحم أمة سورية هي النبع للعطاء والمجد الذي يداعب آهات قصائده:

" للغياب حضور الدهشة .. للدموع ذاكرة الرحيل..

من نحن في حفرة الأكفان ؟!!

يا سوريا نا لك صلوات الأجيال .. وآهات الأنبياء كلهم..

يا وطناً يتسع بحار الدنيا.. ويحمله جناح فراشة"

(انقذوا الماء من الغرق) صرخة تنبيه وقراءة لما خلف الواقع، ونقاء رؤى حالمة بوطن يعشب بالسعادة والعدل، وللأسف كان خوفه على وطنه يجعله يشاهد بأم عينه نمو خلايا الجهل وترعرعها في المراكز الثقافية، وفي معارض الكتب وفي تجمعات جهدت لتعليم الجيل الجديد طرق الجهالة، وإنماء بذور الحقد والتفرقة .. تلك البذور المغروسة في عقول خربة منذ ألاف السنين، وقد راقب هذا التطور المخيف دون أن يتمكن من الوقوف بوجه السيل القادم، وكانت كلماته ( انقذوا الماء من الغرق) السلاح الأمضى الذي شهره بوجه الثقافة الحالكة القادمة .. (انقذوا الماء من الغرق) الماء عند مرزا يمثل الخير والعلم ونقاء النفوس .. المحبة والتسامح والعطاء .. والغرق هو الانحدار إلى المجهول.. تراجع القيم والأخلاق.. والتخلي عن الصفات الجميلة الراسخة في المجتمع السوري، والغرق هو الارتباك الفكري والضياع الثقافي، والتعتيم العقلي، والشقاء السلوكي ( التركيز على المظهر وطمس الجوهر) والاضطهاد التراثي، وكأنه يقول: انقذوا المجتمع وإنسانيته، انقذوه من هذا التجهيل القادم.. لا تدعوه ينمو في تراب العلم والابداع، إن نما وكبر وتواجه مع الفضائل السورية .. حدثت الكارثة.. قليل من فهم ووعي صرخة مرزا منذ أكثر من أربعين عاماً مضت .. ولكن الوقوف بوجه العاصفة واجبارها على التراجع إلى كهوف التراث، كان صعباً وربما مستحيلا .. وها نحن اليوم نعيش المواجهة .. وانتظار هدوء الموج وعودة المحبة والتسامح ..

من بين أمواج البحر ..

وحدها موجة التسامح أعشقها ..

وكانت سلمية تحتل الحيز الأكبر في وجدان مرزا ، سلمية هي المحيط الثقافي الواسع .. سلمية المكان النادر بما يحتويه من متناقضات واختلافات فكرية وعقائدية، وتعاون ومحبة وتسامح.. حرية الرأي فيها مقدسة، ومن يسلك درباً فكرياً من دروبها العديدة لا يلومه أحد على اختياره ولا يجبره أحد على تغييره .. هي الأم التي تحيا بأولادها كلهم رغم الاختلافات الظاهرة للعيان .. لكن الحقيقة تجمعهم دائماً تحت جوانحها.. وقال فيها يوماً:

"إن لم تكن مدينة للشعر فهي بالتأكيد قصيدة بحد ذاتها، وقد كتبتها في مناسبات عديدة" .. وعنده دائماً سلمية والحب مختلطان، فتارة تراه يكتب عن الحب وهو يقصد سلمية، وتارة أخرى يكتب عن سلمية وهو يقصد الحب، وقال في ذلك :

"سلمية جسدي والحب روحي .. وهل يحيا الجسد بلا روح ؟!!" ..

رحمك الله يا مرزا.. غابت الشمس ورحل الضياء إلى عالم النقاء والصفاء .. كانت ولادتك الأولى عام 1951م .. وولادتك الثانية بدأت في 12 تشرين الثاني 2015 م .. خارج مدينتك التي عشت فيها وعاشت فيك، في ذلك اليوم تركت عالم الكون والفساد إلى عالم الحقيقة الكاملة، وبعد هذا ستقرأ من شعرك ما يحلو لك .. وستلفت بسمتك الأنظار إلى مضامينك الأصيلة .. لك المجد والخلود .. انعم بملكوت السماء .. أيها الراحل عن عالم خربشت وجهه الجهالة ..

منقول
والشكر للأستاذ الباحث غالب المير غالب
شكرا لتعليقك