العلم والدين
بين تكبيل الثنائيّات والقراءة المنفتحة
.......................................................................................
من الثنائيّات التي قام عليها الفكر الحديث؛ ثنائيّة (العلم والدين) والتسليم باختلافهما في المنهج والمحتوى.
ورغم الطابع الاجتماعيّ والثقافيّ الخاصّ الذي نشأت فيه هذه الثنائيّة، فقد امتدّت إلى العالم بأسره بفعل (الكولونياليّة) الغربية، لتعمّم على الأديان قاطبة.
ومن هنا فقد شكّلت هذه الثنائيّة وغيرها من الثنائيات عنوانا أساسيّا وتحدّيا حضاريّا أمام العقل في منطقتنا، الذي شابه -في تبنّيه الاختلاف الجوهري بين العلم والدين- الكثير من القلق المعرفيّ الممزوج بالانفعال والانبهار في وقت واحد، ولاسيّما عندما اقتصر في مقارباته وتنظيره للفكر الدينيّ على المنهج الخارجيّ الوافد، مستبعدا المنهج المنبثق من داخل المنظومة الدينيّة، بناء على القطيعة المعرفيّة التي نشأت بدورها في الحقل المعرفيّ الغربيّ. الأمر الذي خلق بدوره ثنائيّة أخرى في مجتمعاتنا وهي (المثقّف - رجل الدين)، وزادنا في "الطنبور نغما"!!
في الحقيقة لو أردنا تشكيل الإطار النظريّ لثنائية العلم والدين وتبصّر خصوصيّاتها ومفاعيلها، كما نشأت في تجربة الحداثة؛ لوجدناها مبنيّة على ضوء المنظومة الدينيّة كما رأتها وأقرّتها الكنيسة الغربية في القرون الوسطى، فمن المعروف أنّ (اللاهوت الكنسيّ) آنذاك نظر إلى الطبيعة والكون المادّي انطلاقا من ركيزتين أساسيّتين:
الأولى: وهي ما يخصّ تلك المزاوجة بين الرؤية الطبيعيّة والبنية العقديّة الإيمانيّة؛ إذ تمّ دمج الآراء والنظريّات العلميّة الطبيعيّة مع الجانب الاعتقاديّ للدين، وهو ما أسبغ على مجموعة من النظريّات الطبيعيّة ،التي عفا عنها الزمان، حلّة من القداسة والثبات!!
الثانية: وتخصّ المنهج الذي اعتمد في النظر إلى الكون وظواهره وحقائقه؛ حيث ربطت الظواهر بالخالق مباشرة دون الاكتراث بقانون السببيّة وتفاعل الظواهر فيما بينها؛ تأثيرا؛ وتأثّرا. فكان العقل المتديّن آنذاك أقرب إلى الأرواحيّة الإحيائيّة حيث تنسب كلّ ظاهرة إلى روح ما، فستقلّ بذلك عن الظواهر الأخرى!.
ولعل من يرجع إلى ثقافة العصور الوسطى يجد تجليّات هذه العقيدة ثقافة مسلكيّةعلى الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ.
على غرار هذه المشهديّة، شكّلت المفارقة التي أحدثتها تطوّرات عصر النهضة واكتشافاته العلميّة النوعيّة، الركيزة الأساسيّة في إحداث الشرخ بين العلم والدين. ربما كانت هذا الانفصال منطقيّا بالنظر إلى السياق التاريخيّ الغربيّ آنذاك، إلا أنّ المشكلة التي لاتخفى على طالب الحقيقة، تكمن في تعميم ذلك على الدين وتجاربه في العالم كلّه، دون مراعاة الفروق والخصائص؛ البنيويّة منها؛ والتاريخيّة!.
ولهذا، لابدّ لنا من خطوة تأصيليّة تقفنا على رؤية موضوعيّة للعلاقة بين العلم والدين، من الضروريّ أن تستهلّ بالأسئلة المنهجية الأتية:
- ترى، هل من مهمّة الدين بيان الحقائق العلميّة بمعزل عن العقل ومناهجه في كشف الواقع؟ وكيف يمكن استبعاد العقل
وهو في إطار المنظومة الدينيّة ، -ولاسيّما الأديان السماويّة- من إبداع الخالق سبحانه وتكريمه للإنسان؟!
- ثم، هل تبنّت جميع الأديان نظريّات حول الكون، بمعزل عن قوانين الطبيعة وقانون السببية؟ ألم يتبنّى الدين الإسلامي -على سبيل المثال- نسبة الظواهر إلى مشيئة إلهيّة قائمة على السببيّة؟!
- وإذا كان هذا الدين أو ذاك قد تصدّى للطبيعة على النمط اللاهوتي الإحيائي الذي ذكرناه أعلاه، دون أن يعبأ بالقوانين، فهل كان تصدّيه هذا منطلقا من الثوابت التي يقوم عليها، أم كان ذلك تحت ظلّ اجتهادات وأفهام عمل عليها أتباعه، وتأثّرت بالمتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة وخصوصياتها على مر التاريخ؟ وبعبارة أخرى: هل ما نسب إلى دين ما من مقولات طبيعية واهنة ساذجة، يمتلك الأصالة والإرجاع إلى أسس هذا الدين ومبادئه، أم لا؟
- لماذا حقّقت بعض الشعوب تقدّما على صعيد الاكتشافات العلمية، بالرغم من تديّنها والتسليم بحاكميّتها للدين؟ وخير شاهد على ذلك المسلمون الذين توصّلوا إلى نهضة تجريبيّة رائدة بالنسبة للحقبة الزمنية التي حصلت فيها. فعلى سبيل التذكرة فقد توصّل المسلمون إلى بطلان نظريّة مركزيّة الأرض البطلوميّة، في مركز (مراغة) الفلكيّ بإشراف (نصير الدين الطوسيّ) قبل أن يفجّرها (كوبر نيكوس) ثورة علمية أسّست لكبرى النهضات العلميّة على مرّ التاريخ في الساحة الأوروبيّة(راجع، فجر العلم الحديث، ج2، توبي أ.هاف، تر. أحمد محمود صبحي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 220، ص172).
على منوال هذه الأسئلة يمكننا الاجتماع على مائدة واحدة، للوصول إلى واقعيّة العلاقة بين الدين والعلم، وتحريرها من قيود الثنائيّات المغلقة، القاتلة للفكر والمسمّمة لأجوائنا الاجتماعيّة وعيشنا المشترك.
أخيرا، أرجو ألا يحاكم كلامي أعلاه انطلاقا من مفاعيل الثنائيّة ومصادرتها القاتلة، لئلّا نقع في حلقة مفرغة!.
جمال صالح جزان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء