دراسات نقدية
(الانسيابية في القصيدة أو النص الشعري)
.......................................................................................
قبل أن ندخل في هذا المصطلح النقدي الذي ظهر مع النقد الحديث, لابد أن نوضح معنى الفعلين ( ساب وانساب) فقد ورد في كثير من المعاجم أنّ الدلالة التي يوحي بها الفعلان السابقان هي دلالة مادية أولا ومعنوية ثانياً فالفعل ساب الماء أي جرى, وساب الرجلُ أي مشى مسرعاً وسابت الدابة أي تركت ترعى حيث تشاء,إلخ.. أما الفعل انساب ففيه زيادة للمطاوعة فنقول: انساب الماء أي سال من غير حاجز أو عائق وانساب الرجل مشى مسرعا, انسابت الحيّة جرت وتدافعت في حركتها او انتقالها , إلخ .. ومن هذه المعاني الكثيرة نصل إلى أنّ الانسيابية مصدر صناعي للفعل انساب, وهو يدل على الحركة السريعة .
أما مصطلح (الانسيابية) فقد دخل عالم النقد الأدبي الحديث من باب الشعر والقصيدة , مع أن هذه الصفة لم تكن مستخدمة في النقد سابقا ولكن قصائد كبار الشعراء منذ العصور الأولى كانت تتمتع بهذه الصفة بأجلى صورها وأتمها, مما جعل قصائدهم تتلقى القبول والإعجاب منذ اللحظة الأولى لانتشارها أو روايتها بين الناس.
إنّ الحديث عن صفة الانسيابية في القصيدة يستدعي الحديث عن صفات القصيدة الجميلة التي تدخل النفس دون استئذان . فما هي شروط الانسيابية في القصيدة؟
قد يقول قائل كيف لك أن تضع شروطا في الأدب , والأدب حالة إبداع حر؟ لعمري إن تلك الحجة لا تقف أمام نقاش منطقي صامدة بل ستنهار فورا, فالحرية في الإبداع لا تعني الحرية المطلقة المنفلتة على غاربها دون ضوابط , فمنذ القديم كان الناس وهم ليسوا نقادا متخصصين يعيبون على الشاعر إذا أتى في قوله بما ينافي الذوق العام أو يخالف المنطق العام , فقد روي أن الشاعرَ الجاهلي طرفة بن العبد وهو أحد أصحاب القصائد الطوال ( المعلقات) , كان في مجلس أحد الملوك , وكان الشاعر المتلمس ينشد شعراً ومنه قوله :
وقد أتناسى الهمّ عندَ احتضارهِ بناجٍ عليه الصيعرية مكدمِ
والصيعرية هي سمة في عنق الناقة, والناجي المكدم هو جمل الشاعر, فعاب عليه طرفة أن يصف الجمل بهذه الصفة وقال " استنوقَ الجملَ" .
ولو ترك الحبل على غاربه كما يحدث في هذه الأيّام على صفحات التواصل الاجتماعي وغيره من منابر الشعر لرأيت العجب العجاب من الكتابات الضحلة والمصائب اللغوية والأدبية والنحوية , حتى وصل الأمر ليقول قائل : مات الشعر منذ زمن, وشيع جثمانة في عربة الحداثة المنفلتة من غير لجام .
ومن استقصاء وتأمل في قصائد كبار الشعراء من القدماء والمحدثين رأيت أن شروط الانسيابية في القصيدة تتلخص فيما يأتي :
إن تحقق الانسيابية في القصيدة يستدعي الاتيان بالكلمات المأنوسة المألوفة البعيدة عن الغرابة والركاكة والإسفاف , فلا تعقيد في اللفظ أو التركيب اللغوي, لأن التعقيد ليس من صفات الشعر’ والقصيدة التي تحتاج إلى قراءات متعددة للوصول إلى معرفة قصد وغاية الشاعر, ليست من الشعرالجيد, وإن كانت منظومة على بحوره وقوافيه, بل هي أقرب إلى النظم المصنوع الذي يهدف لإظهار البراعة في جمع المتناقضات والشاذ من التراكيب المعقدة, ولا انحدار نحو العامية والكلام السوقي المتداول في الشارع, كما أنّ المفردات يجب أن توضع في سياقها الجملي أو النحوي وموقعها الإعرابي, والإقلال ما أمكن من التقديم والتأخير وخاصة فيما يخص الحالات التي تسبب الإيهام والغموض في التركيب والصياغة. إنّ اختيار الكلمات والألفاظ الموحية بطريقة قريبة إلى الذهن وليس الإغراق في المفاهيم الغامضة التي توحي بأشياء متناقضة من دواعي الانسيابية في القصيدة . كما أنّ اختيار المفردات المناسبة للموقف الشعوري بعيدا عن اللهاث وراء الكلمات ذات الدلالات الإيقاعية التي تفسد الجو النفسي, فالشعر هو لغة العاطفة أولا, وما يفسد المشاعر أو يضعفها هو من عيوب الشعر ومفسداته.
لا بدّ من المواءمة بين الشكل والمضمون, فالركض وراء الفكرة على حساب الشكل أو الركض وراء الوزن والقافية في الشعر الموزون المقفى مما يفسد الشعر في إيقاعه وفكرته معا.كما انّ اللهاث وراء الصورة الشعرية قد يضعف المعنى ويفسد اللغة, فالصورة وحدها لا تصنع قصيدة , بل هي جزء يتكامل مع غيره من عناصر القصيدة , ويجب توظيفها بالشكل المناسب.
فالمحافظة على الانسيابية في القصيدة تقتضي تجاوز كلّ ما يسيءَ إليها مهما كان شأنه, وهناك من الشعراء من يلهث وراء الإطالة في القصيدة رغبة في إظهار موهبته الفذة في كتابة القصيدة الطويلة , وما إن تقرأ له الأبيات الأولى حتى تجده يكرر المعاني من جهة ويخرج عن الوحدة العضوية للقصيدة من جهة , وتميل قصيدته إلى الركاكة والضعف, حتى لتقول لو أنه توقف عند كذا لكان أفضل له من هذا الإسفاف والتفاهة .
إنّ أخطر ما يصيب القصيدة من داء هو التكلف, ومن أشكاله الكثيرة الحذف أو الإضافة أو التقديم والتأخير أو تخفيف الشدة والاتكاء على الجمل التي لا تخدم المعنى من أجل استقامة الوزن في القصيدة الموزونة , أو زيادة الشرح والتوضيح في القصيدة المنثورة أو قصيدة التفعيلة. ومن أشكال التكلف ما يسمى الالتفات أي الانتقال بين الضمائر , فتجد الشاعر يتنقل بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب أو بين ضمائر المفرد والجمع .. مما يسبب تشتيت ذهن المتلقي ويقطع خيط الشعور.
وهناك عيوب أخرى تفسد الانسيابية في القصيدة الموزونة ومنها عيوب الوزن والتفعيلات التي تغرق في الضرورات الشعرية والزحافات والعلل والمجازات, وبعض عيوب القافية , والضعف في اختيار البحر المناسب للموضوع .
إن تحقق هذه الشروط وتوفرها في القصيدة يجعلها تتدفق في نفس المتلقي وتجري جريان الماء العذب في جدول رقراق’ دون عوائق أو حواجز تحرف مساره وتشوه صورة الماء العذب
الشاعر فايق موسى
اللوحة للفنان كرم النظامي
اللوحة للفنان كرم النظامي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء