pregnancy

ما تحت الطاولة








قصة.. 
ما تحت الطاولة


جلس العملاق ذو الأيادي الستة إلى مائدةٍ هائلة ذات قوائم باسقات ، وإلى يمينه شياطين مَردة ، وإلى يسارهِ كلابٌ كلُ واحدٍ منهم بثلاثة رؤوس .. داعب العملاق بطنه الكبيرة ، ثم قال مُبتسماً ، يالغباء هؤلاء البشر الذين يعيشون تحت مائدتي لمجرد أنني أنطق بلغتهم وأقطن منذ الأزل في ذاتِ الأرض ، تركوني أتعملق وأتعملق ، وهم بعد أن أدرت عليهم دوائر مكري يحسبونني الأب الحنون والأخ العطوف وهاهم الآن جميعاً يعيشون تحت مائدتي الضخمة مُقتاتين على الفُتات ، ومع ذلك يرفعون لي آيات الشكر والتبجيل ، لمجرد أنهم يخشون المَردة الآخرين ، الذين لجلدهم ألوانٌ أخرى لاتشبه ألواننا ، ويتحدثون لغاتٍ أخرى ، ونشأوا في أرضٍ غير هذه الأرض . إنهم لا يدركون أن المردة هم المردة مهما كانت لغاتهم وألوانهم .. ولا يدركون أننا في عصر ٍِ قلما يعيش فيه ماردٌ خارج أرضه .. وسواء رفعت خيرات الأرض إلى أرضٍ أخرى أم إلى مائدةٍ عالية في ذات الأرض فحالهم واحد ، يستحيلون أذلاء أو وحوشاً في صراعهم على الفتات.
نهض شيطانٌ مَريد وقال :
مولاي المجيد أهلُ كثير ٍ من البلاد ذُبحوا عملاقهم ، ونجروا من المائدة الضخمة التي كانت تحجب عنهم السماء ، سفائن ركبوها إلى ذرى الرفاه والريادة والمجد .. وكادوا يُعجزون كل من يريد أن يغدو عملاقاً كسولاً بديناً في أرضهم .. حتى لم يبقى للأقوياء الطموحين في العديد من الأراضي إلا يخوضوا منافسة فيما بينهم وينجزون صروحاً ومنشآت ويخدمون أهل أرضهم عوضاً عن التعملق.. وأخشى أن ينشر الناس هنا ، قوائم مائدتنا فتهبط شيئاً فشيئاً حتى تغدو في متناولهم وحينها إن أردت حصتك العظيمة من الطعام والخيرات قد لا يعطونك وقد يتجرؤون عليك .
حكَّ العملاق أسفل ذقنه المنتفخة كبطن بقرة توشكُ على الولادة ، ثم قال:
ما العمل ؟
نهض كلبٌ تبعثرت في فمه الأنياب لكثرة ما استخدمها في العض ، فبدت كأنها أسنان التمساح ، وقال واللعاب يسيل من بين فكيه: سلطنا عليهم ننهش بين الحين والآخر بعضهم ونعوي عواءً مفزعاً في كلِّ مكان .. فيعرفون عاقبة العصيان.
انتفض شيطانٌ قرمزي اللون وقال : لا يا مولاي لا نريد أن نثير سخط الناس إلى تلك الدرجة حتى لا يقلبوا المائدة علينا .
قال العملاق: ما الحل إذاً ؟
أجابهُ ماردٌ من الجن أزرق اللون : مولاي سنصادر كل منشار ٍ في المملكة .
احتج شيطانٌ قائلاً : لا هذه فضيحة .. مملكة بلا مناشير .. كيف سيؤثث الناس بيوتهم ؟ ويحصلون حطباً يقيهم البرد ؟
قال الجني المَريد : صديقي أخطأ باللفظة يامولاي.. لسنا نتحدث عن تلك المناشير التي تؤثث البيوت بل نحن نقصد المناشير التي تؤثث العقول.. دعنا نسلط كلابنا تراقب كل ناشرٍ ، وكلَّ منشور ٍ ، وكلَّ دار نشر ، حتى مناشير العالم الافتراضي ، وحينها لن يقربوا قوائم المائدة العُليا.. ولن يصلوا إلى الخيرات.
صرخ كلبٌ مُلقبٌ ببوابة جهنم ، لأن لديه بين فكيه فكين آخرين : لنقتلع عيون الناس أجمعين.
أردف الشيطانُ قائلاً : لا ، لا يصح أن يُقال عن الناس تحت مائدتنا شعبٌ أعمى .
قال الكلب : لنطلي إذاً أسفل المائدة باللون الأزرق ، وسنلقي عظاماً مكسوة ً بشيءٍ من اللحم إلى بعض وجهاء القوم الجائعين كي يقولوا أن هذه سماء ويقنعوا الناس بذلك ، وبأن لا شيء يحول بين الناس وبين الشمس والعُلى .. لا بل وأنكم يامولاي ما فوق الشمس والعُلى .
قال شيطانٌ لم يوجد للونه اسمٌ بعد : فلتبقى العيون في محاجرها ، لكن فلتعمى العقول والبصائر .. لنحرق الكتب جميعاً .. لا يجب أن يعلموا شيئاً إلا ما أردناه لهم .
أجاب الملكُ العملاق : لا ، عارٌ أن يُقال مملكةٌ بلا مكتبات .. من ثم إن انتزعت منهم شيئاً زرعت فيهم الفضول إزاءه .. تفكروا وتدبروا وافعلوا ما يُبقي هذا المائدة عالياً .
هبطت الشياطين ومن أمامها الكلاب الشرسة ، ترك الشياطين الكلاب يتلقفون الفُتات المتساقط من المائدة الكبيرة فما حظي الناس إلا بفتات الفتات ، فما اشتروا كتباً ، ولا استطاعوا سفراً ونظراً إلى غير بلاد ، وباتوا لا يستخدمون عقولها إلا للتفكير كيف يؤمنون السكن والمأكل والمشرب والمركب ، وحسبوا أن القراءة لأوقات الفراغ ، والتعلم لردء الفقر واضمحلوا ، واضمحلت عقولهم حتى بات العديد منهم دون الإنسان عقلاً ، وفوق الحيوان وحشية ًوعداءً ، لقد تقزموا وسخطهم الفقر .. وذاتَ ليلةٍ استشعر الملك العملاق اهتزازاً متزايداً في مائدته ِ ، فنادى مستشاريه وقال : ما خطبُ المائدة؟!
فأجابه أحدهم .. هناك بضعة حشرات دخلت في قوائمها .. لكن لا تقلق يا مولاي ، إن هي إلا حشراتٌ صغيرة وسحقها هين.
لكن المائدة ظلت تهتزُّ وتهتز .. وذات مساء قرر العملاق أن ينظر بنفسه إلى أسفل المائدة .. فوجد قطعاناً من السوس تنهشُ قوائمها ، لا بل تنهش كل صرح ٍ مَشيد وقائم ٍ مجيد ، على تلك الأرض .. فصاح العملاق يا ويلتاه من أين جاء كلُّ هذا .
وتداعت عمالقة العالم الجشعة ، وأخذت ترجم قوائم المائدة ، بحجة الخوف من انتشار السوس في أرجاء العالم . ومات الكثير من الناس المساكين ، وهرب آخرون لكن أكثر الناس بساطة ً وسذاجة ً هم من بقي معتصماً بالآمال العريضات ، وسط عواء الكلاب وفحيح الشياطين و شره السوس و رجوم عمالقة الشر .. لا المائدة تبددت ، ولا الشمس ظهرت .
- تمت -
سامر منصور

شكرا لتعليقك