pregnancy

الموت الروحي للأصدقاء القدامى








الموت الروحي للأصدقاء القدامى
           جحيم هنري ميللر
..............................................................................

    وأنت تقرأ هنري ميللر تشعر كأنك محمول على أمواج بحر تجتاحه عواصف  بعد أن يلفحك عريه وفضائحيته عائداً بك إلى رعشة الطفولة الأولى والبدائية تسأل عن مدى الحرية المطلقة الداخلية التي يكتب بها. هذا الأسلوب الدفاق واللافح كوهج النيران لا يمتلكه إلّا الكاتب الذي اختصم مع العالم. كل العالم إلى الأبد. الكاتب الذي استقبل الهاوية واحتضن الجحيم. 
   إذا كان هناك من تعريف لهذا المجنون المجنح فهو تعبير:  قاطع الأواصر مع كل ما هو أليف. 
   هذا الوحش الجميل العابر على خط الصراط بين هاويتين كما يعبر نيتشه. يقطع بمقص حاد كل أواصر عالم الخليقة المدنية بدءاً من حبل السرة والشرائع والمواضعات الإجتماعية والأخلاق والدولة. إنه يقف فوق هاوية وينثرها كقصاصات من ورق بال وهو يقهقه بسادية طفولية وثأر رجل نبذته آلهة الأرض والسماء فانتبذ العراء عارياً تحت الريح. 
   كتابة ميللر الذاتية الفوضوية بنظامها الداخلي تبدو سهلة لأنها تتدفق من ينابيع الأنا لتفيض على العالم ولأنه ينتمي في الكتابة إلى عالم( الهو) الفرويدي فهو يمتلك تلك الحرية الشبيهة بأجنحة الصقور. يندفع من الأعالي نحو السهب منعطفاً إلى الغابات عابراً فوق المدن والشوارع. وفي عبوره يزرع الخراب والحزن السري والتوحش وفيزياء الجنس وذلك الشوق الرحمي للموت. 
    في " ربيع اسود" و" مدار الجدي" ويومياته يأخذك ميللر المحموم إلى جحيم دانتي والفردوس المفقود معاً.سيالته الشعرية وهي حرائق حياته لا تتوقف إلّا على اعتاب الموت. 
    " كنت ميتاً كنجم قطبي" يقول وهو يستريح على العشب. " وأنا داخل تلك المرأة. منغمراً بكليتي في أعماق رحمها كنت اعود إلى أحشاء أمي وأموت". يقول وهو يضاجع. الموت في السرير. الموت في المرأة. الموت في العمل. حتى في العمل حتى وهو يأكل أو يشرب يحكي عن الموت. 
   رجل لقيط. مذعور. مغمور بشياطين الفسق والإنتهاك.لا يرى الحياة إلّا بعينيّ رجل سيموت في اللحظة القادمة. حتى لحظة الكتابة يفتتها هذا الشرير الجميل والملعون إلى لحظات  موت. يدخل إلى مسام اللغة والصورة والتركيب والمجاز والشعر فيضرم فيها الحرائق حتى تتحول إلى رماد ويباب. 
   في قاع هذا الخراب المسكون بوحوش الموت هناك نبضة أو قطرة ندى منوية. تشكل البذرة الأولى للحياة والشوق اللامحدود مكثفاً داخل تلك القطرة لعالم جديد مضاد وباهر الضوء. يقودك ميللر إلى نافذته في انخطافة البصر  ثم يلبث وهو المجتاح بالندم. أن يقذف بك إلى هاوية الليل. 
   سلاماً أيها الفاوستي الذي لعنته أمريكيا فوضعها في مؤخرته واستدار غير نادم لفراق تلك القرحة المتورمة.

من مصادر 
شكرا لتعليقك