لقاءٌ بعد غياب
.....................................................................................
امتلأتْ صالةُ عرضِ دار الأوبرا في مرج الزهور..كلّي متعبٌ من كلّي...عشرون عاماً و أنا أبحث عنها وقد ضاع العنوان.. قلت لنفسي..منذ أيام ؛ في رؤياي رأيتُ حمامةً بيضاء..حطتْ و أنا أتناولُ بعضَ أقراص اللحم بعجين بنكهة السماق واللبن البارد..وأطباق فنجاني قهوة ؛ متخمة بأزهار الفل و الياسمين..ورائحة غليوني تعبق بالمكان..جاءتْ الحمامةُ..وأخذتْ نصيبها من كل شيء ، ورَفرفَتْ و غابتْ عن ناظري..سألتُ قارئةَ الفنجان عن تأويل ما شاهدتُ في رؤيتي..فقالت : لقد اقتربَ اللقاء..وابتسمتْ..وأسبلت بعينيها..وودّعتْ !!
جلستُ في أخر كرسيّ في الصالة..فالصفوفُ الأمامية تكون دوماً محجوزةً لأصحاب الوجاهة..والعقول الخاوية..وبدأ العرض..وأنا كلي في تأويل حلمي ؛ أن أرى ذاك الوجه الذي لم تكتحل به عيناي منذ زمان..إن مشتْ درجت كطّائر الدرّاج..إن ابتسمتْ تعانقَ الحياءُ مع البنفسج و السوسن. يعلو صوتُ رجلٍ على خشبة المسرح..ابتدأ العرضُ..أقدّمُ لكم و حسب التسلسل : ظهرتْ من خيمتها..والأضواء خافتة..ثم راحَ الضوء ينكسب على الخشبة..قالتْ بصوتٍ رخيم :
أنا بائعةُ الكبريت..نظرَتْ في الفضاء البعيد..ثم خاطبتْ الجمهورَ..لقد مُتُّ من قلة إحساس الأخرين..قتلني البردُ..ولم ينفعْني دفءُ أعواد الثقاب ، و أنتم تغطّونَ في نومٍ عميق..هل تفهمون معنى أن يموتَ الإنسانُ من البرد و الصقيع ، دون أن يُلهبَ قلبَه الدفءُ و الحبُّ..وينساه الآخرون..صفّقَ الجمهورُ بحرارة..حيَّتِ الجمهورَ وعادتْ إلى خيمتها..
أنا راقصةُ الباليه..ابتسمَتْ..لاتدعَوا رقصَ الجسدِ همَّكم الوحيد..لولا تناغمُ القلوب ما تناغمَ الرقصُ..ومن قال لكم : أن الجسدَ يرقص بمفرده ، ما لم تُعزفْ سيمفونيةُ الرقصِ على لهيب تناغم القلوب؟!! . جسدي هذا لا يرقصُ إلا على موسيقا الاحتراق..وموسيقا الجنون..فتلينُ العظامُ..وأرقصُ مع الآخر، وكأننا جسدٌ واحدٌ يقفزُعلى صفيح ساخن واحد..فصفّقَ الجمهورُ بحرارةٍ..
أنا قارئةُ الفنجان..لا تصدّقوا أنني بصّارة !! ما قرأتُ فنجانَ شخصٍ..إلّا أقرأ فنجاني..وعرفت عندما أقرأ فنجان عاشق..كنت أرى في أحداقه..وبركة الماء في عينيه كلَّ أسراره سابحةً ..فأقول له : " قد مات شهيداً من ماتَ فداءً للمحبوب : نزار قباني "..دوَّتْ الصالةُ بالتصفيق الحاد...
أنا حافيةُ القدمين...افرحوا بأحذيتكم غالية الثمن..افرحوا بالصقيع و الجليد في أعماقكم..فأنا ما أحسست يوماً بالصفيح الساخن والحامي تحت قدميّ..ولا الأشواك..ولا الحصى..ولا حتى المسامير..ولا كسيراتِ الزجاجِ الحادّة تحت قدمي..ما أروعَ لهيبَ رمال الصحراء ، و أنا أبحث عنك يا حبيبي!! صفّقَ الجمهورُ بحرارةٍ..ورُميتْ أزهارٌ وورودٌ على خشبة المسرح..
أنا شهرزاد..ويحكمْ أتفهمونَ معنى الحُبّ ؟؟ وتبتسمُ..وكيف يكون الحبُّ ، وينكرُ العاشقُ أو المعشوق حبيبَه من أول اختبار؟؟ الحُبّ تضحيةٌ من أجل من نحب !! ومن لم يفهمْ معنى التضحية..لن يفهمَ أبداً معنى الحبَّ..صفق الجمهور بحرارة أكثر من مرة!!..
وأخيراً خرجتْ عشتارُ على استحياءٍ و كبرياء..وقفَ الحضورُ ، وصفّقَ قبل أن تتكلم..
أنا عشتار..في العبادة أرقى أنواع المحبة..مالم تترقوا لعتبة العبادة..لا تدّعوا الحبَّ و العشق..لا تتاجروا به.." فتَظلموا و تُظلموا "..لن يدخلَ الحبُّ قلوبَكم ، ما لم تتقنوا فنَّ مؤانسة النار؛ إما بإحضار قبسٍ لإضفاء الدفء في أعماقكم..أو بتعلّم الهداية من موسيقا النار..دوَّتْ القاعة بالتصفيق..رُفعتْ الأكفُّ..هَطلتْ الورود و الزهور بغزارة من كل الجهات..و أُغلقتْ الستارةُ معلنةً الاستراحة..
وبقي قليلٌ من الناس في الصالة..وأنا منهم..وأحسستُ أن لكل امرئ في مخيلته هوسٌ يغنيه و يلهيه..هاجمتْني بدون استئذان..رائحةُ غليوني..امتزجتْ برائحة القهوة التي اعتدتُ عليها..وأزهار الفل و الياسمين نصف الناعسة وهي تسبح بالماء..لا بد أن رائحة غليوني فاحتْ من التي تحملُ عطري..وأحملُ وردها..أحسستُ أن دبيبَ النمل يحرثُ جسدي ، وفراخ طير زغب الحواصل تفلّي رأسي بحنين ..ياإلهي...ماسيحدث أهو المنظور أم المستور؟!..كل شيء من حولي يؤلمني ، وبنفس الوقت..أحسستُ أن قبساً قد يلمع..قلتُ في نفسي..لو أنّي أعلمُ أنني سأجدّدُ آلامي و أحزاني ؛ ما كنت أتيت إلى هذا العرض..استمرّتِ العروضُ و المشاهد..وأخيراً أُغلقتْ الستارةُ معلنةً النهاية..
خرج الجميع. وبقيت متسمِّراً على كرسيي..غارقاً في بحر الذكريات. جاء موظف الصالة ، سألني : لماذا بقيت ، وقد خرج الحضور..التفتُّ فرأيت في الصفوف الأمامية بعضَ الناس وسيدةً بمفردها ما تزال جالسةً..فقلت : يا سبحان الله..في زمن فوضى الحواس و تعطّلها..يُعامَل الإنسانُ حسب مكان الجلوس..وليس حسب كنه وماهية هذا الإنسان..ويبدو أن موظفَ الصالة لم يتجرأ أن يذهبَ للصفوف الأمامية ويستعجلهم..ضحكتُ في أعماقي..وقلت له : أنا أعشق امرأةً رحلتْ منذ زمنٍ..وهي بلا عنوان ، وأفتّش عنها في كل مكان.
وفي هذه الأثناء؛ نهضتْ تلك السيدةُ..وغادرتْ كرسيَّها للخروج..وطريقُها لا بد أن يكون من أمامي..وما أن اقتربتْ..إلا تزاوج البصَران..ولمع البرق في الأعماق..وكلما زادَ الاقترابُ..سيطرَ الهذيانُ ..بادرتْني..أنتَ (نون) ؟ ارتبكَ لساني.. وأنتِ " نون "..وتصافحتْ الأيدي وغطسَ (النونان) كلٌّ في أحداق الآخر..و لم أعرفْ ماذا جرى..لكني كنتُ أسمعُ صدى صوتها يدندن ( وش ذكرك بينا..عشرون عاما انقضت و انت اللي ناسينا-أغنية لسعدون) بضع دقائق..كانت كافيةً لذوبانِ الثلجِ المتراكمِ منذ عشرين عاماً..سالتْ دررُ الندى..وأنا أغرقُ في أحداقها..أحسستُ أنها تحملُ بردَ بائعة الكبريت..وهيامُها الدفءُ..راقصةً على الجمر الحامي..حافية القدمين على لهيب رمال الصحراء..قرأتْ أعماقي دون فنجان قهوة..وأفهمتني معنى الحب و العشق بعد الهجر ...وكيف يكونُ العطاءُ والتضحية في الحب كما هي شهرزاد..هي و أنا تعلّمنا من عشتار أن مؤانسةَ النار مقدمةً لهدى الحب ؛ ولدفء واصطلاء المعاني و الأعماق..سادَ صمتٌ غريبٌ..ناحتْ فيه اليمامُ...
نظرتُ حولي فإذا بمخرج العرض المسرحي و موظف الصالة...كلٌّ تسيلُ دموعُه على الخدين مجرار...فقال مخرجُ العرض : هذا أجملُ عرضٍ شَهدتُه ، دون أن أخرجه على خشبة المسرح...إنه التآلف و الجمال و الحب و العبادة..حيث تورق أزهار الفل و الياسمين...والعرضُ القادم سيكون بعنوان " لقاءٌ بعد غياب"...
خرجنا معاً كجسد واحد..إلى حديقة دار الاوبرا..وأمضينا ساعة واحدة..كشفت لي العنوان...وقالت يا "نوني "..ساعة واحدة..وليس ليلة واحدة..أو سنة واحدة..هي العمر...!!
طابت سهرتكم
٨ أيلول ٢٠١٥
نورالدين منى
noureddinmona@yahoo.com
الصورة ل يارا خضير راقصة الباليه في شوارع باب شرقي .دمشق
الصورة ل يارا خضير راقصة الباليه في شوارع باب شرقي .دمشق
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء