pregnancy

جذور الأزمة السورية ... التسعينيات وما قبلها



جذور الأزمة السورية ... التسعينيات وما قبلها
.......................................................................................

ليس كل خطأ مقصود، وليس كل قصد وراءه نية خبيثة، فالطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الحسنة، والأخطاء تقع في كثير من الأحيان بهدف الإنجاز. 

وفي الأزمة السورية مورست أخطاء كبرى وكثيرة بنوايا إنقاذ الوطن، سواء من هذا الطرف أو ذاك. 
ولا شك أن الناس والمفكرين بالبلد قاموا بمراجعة واستنباط الأسباب التي قادتنا إلى هذا المنزلق الخطير، الكثيرين  لم يتوغلوا في العمق فبقي تفكيرهم يسبح على سطح المشكلة وظاهرها فذهبوا مثلا إلى أن الدين هو القضية الأساس، فطرف يقول أن التطرف الديني تسرب إلى البلاد وكان هو السم الزعاف، وطرف آخر يقول أن الابتعاد عن الدين والشريعة هو ما حاق بالبلاد هذه الكوارث.
والبعض ذهب إلى الشخصنة والى الحزب والى العسكرة.
لكن بشيء من التمعن ندرك أن التفسير الموضوعي يشير إلى سبب جوهري وهو اشتداد التناقضات الاجتماعية الطبقية، فمنذ التسعينيات بدأت الطبقة الوسطى بالتآكل لصالح الطبقة الفقيرة وطبقة محدثي النعمة الليبراليين المتسلقين حتى على حساب الطبقات جميعا بما فيها طبقة الأثرياء التقليدية في سوريا.

في السبعينيات والثمانينيات فصلت السلطة نفسها عن الانتفاع الاقتصادي، فكانت السلطة معزولة نوعا ما عن الحالة الرأسمالية في البلاد، التي اضطلعت بها -أكثر ما يكون- الطبقة البرجوازية في كل من دمشق وحلب، مع استثناءات بسيطة في باقي المحافظات. 
وكانت سوريا آنذاك نسخة مصغرة عن دول المعسكر الاشتراكي، مع اختلافات بسيطة قليلة الأهمية. ومع استنبات التطرف الإسلامي في مطلع الثمانينات تضخمت القوى الأمنية والعسكرية في البلاد على حساب القطاعات الأخرى فتراجع التعليم والصحة والخدمات بشكل عام؛ وضعفت الحريات، وتراجعت الحياة السياسية.
ولأن الصلاحيات المعطاة واسعة وكبيرة اشتهى بعض المتنفذين كسر العزل عن أرباب المال فاستخدموا صلاحياتهم لعرقلة المشاريع الاقتصادية، فأضطر أصحابها إلى مشاركتهم بنسب معينة غير معلنة على الأرجح، وتم لأول مرة في نهاية الثمانينات دمج عناصر كبيرة ومتوسطة من السلطة في الحياة الرأسمالية في البلاد.
هنا لابد أن نشير إلى نقطة هامة جدا وهي أن الجماهير بطبيعتها تملك حساسية مفرطة تجاه من يمتلك قوة المال والسلطة في آن معا.

مع سقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات سقطت معه المنظومة الاشتراكية، واكتسبت الرأسمالية ونظامها في العالم دفعة كبرى للأمام اقتصاديا وسياسيا، أثرت بشكل عميق على كيان الطبقة الوسطى في كل أنحاء العالم.
أقبلت الولايات المتحدة، المسماة القطب الواحد في العالم على حصاد المغانم السياسية والاقتصادية في الدول التي تفككت بها المنظومة، فانتشرت الثورات البرتقالية لتحول السلطات المركزية شبه المطلقة إلى ديموقراطيات تتنفس من عباءة العم سام، أما الإشتراكية وفق الرؤية السوفيتية فقد ولت إلى غير رجعة.
في تلك الأثناء ظهر في سوريا ولأول مرة قانون الاستثمار رقم (١٠) الذي يعتبر إطلاقا للعملية الرأسمالية بمشاركة شبه معلنة من عناصر من السلطة نفسها، فكان هذا بداية انحدار الطبقة الوسطى في سوريا بشكل دراماتيكي.
استفاد من هذه الطفرة الشريحة التي جمعت بين القوة الرأسمالية والنفوذ الحكومي في آن معا، وهي التي ستشكل نواة طبقة محدثي النعمة الليبرالية، التي لا تمت لأي مبدأ او فكر بصلة.
إلا انه ورغم الضغوط الدولية والبرجوازية الداخلية حافظت الدولة على مجانية التعليم بما فيه التعليم الجامعي والتعليم العالي، وحافظت أيضا على مجانبة الطبابة إلى حد ما ومجانية قطاعات خدمية أخرى. 
إلا أن الفرق كان واضحا في النوعية، فعاما بعد عام حلت الرداءة  بالقطاع العام وتعمقت، قابله ارتقاء الجودة في القطاع الخاص، خصوصا في قطاع التعليم والصحة والنقل والخدمات، فأنقسم المستهلكون إلى أحد القطاعين، وبذلك انطلقت في المجتمع السوري وبشكل مستفز ملامح الانقسام الطبقي الحاد.

يمكن القول أن عقد التسعينيات كان بداية النهاية للطبقة الوسطى (الحامل الثقافي الاقتصادي للمجتمع) ومعها بداية النهاية للإشراقة الثقافية التي أطلت بطاقة شعبية منذ الستينيات، فمع تراجع مستوى التعليم وتنميطه حدث تسطح ثقافي غير مسبوق، وطرد للفكر الاشتراكي وخمود غير متوقع للماركسية، وفقدان العقلية التنويرية الدينية، ترافق كل هذا في غياب المسرح الوطني والجاد عن الحياة الثقافية، وانعدام السينما، واقتصار الشعر والأدب على شخصيات هامة جرى تصنيمها واجترارها مجتمعيا حتى فقدت قدرتها التحريكية مثل الماغوط وقباني ودرويش.
أكبر الطعنات نالها قطاع الطفولة فمن لبنان تم شراء مجلة سامر ومن ثم إغلاقها، وفي سوريا خفتت مجلة أسامة فنياً وابداعياً، وفي العراق غابت مجلة المزمار ومجلتي، وفي تونس تحولت مجلة عرفان إلى مجلة أصولية. 
كان من الواضح أن الأجيال القادمة في كل أقطار العالم العربي يراد لها (بقصد أو دون قصد) أن تتحول الى الأصولية المنغلقة والعنيفة.

وتفرقت في عقد التسعينيات أسراب اليسار العربي ما بين الذهول والإرتداد نحو اليمين بإتجاه إما العودة إلى الدين أو نحو النرجسية الذاتية الليبرالية أو نحو الديمقراطية العلمانية؛ وفي هذه المرحلة تم بيع مجلة الناقد من دار الريس ومن ثم اغلاقها؛ كما تمت انطلاقة الانفتاح السوري على منطقة الخليج من ناحية العمالة ومن ناحية الورود السياحي المبهم إلى سوريا ولبنان.

هنا لابد من الإشارة إلى أن الخميرة اللبنانية برقيها وقذارتها منذ الثمانينيات آخذة بالانتقال إلى سوريا، فمن أغنيات مرسيل خليفة اليسارية، إلى المجادلات الطائفية الوضيعة، إلى الانبهار المصطنع بالغرب والتقليد الأعمى له والمظاهر المادية، إلى التشدق بالمذهبية الإسلامية؛ معظمها لفحت المجتمع السوري برياح ثلجية مهلكة.

وبذلك فأنه في عقد التسعينيات تمت توسعة الطبقة الفقيرة الكبرى وتعميقها كبديل عن الطبقة الوسطى المتآكلة، كما تم الارتكاس من الثقافة الإشتراكية الشعبية نحو الثقافة الدينية الإسلاموية (المصطنعة) أو الثقافة اليمينية العلمانية الغربية، وبذلك تحقق إنفصام المجتمع السوري على نفسه طبقياً وثقافياً.

الأديب الباحث علي حسين الحموي
شكرا لتعليقك