الأرض والجدة
.......................................................................................
كانت تجمعنا حولها كل ليلة لتوزّع علينا بعض الحلوى و البرتقال و التفاح و كل ما من شأنه أن يجتذب الأطفال ويكسب ودّهم. كانت تحبنا، وهذا شيء لا مجال فيه إلى نقاش أو إثبات، فقد كنّا أحفادها الصغار. والجدّات تحب الأحفاد. هذه طبيعة فُطر عليها البشر عموماً.
لكن ما لم تفطر عليه الجدات في العموم: هو حب جدتي لسيرة فلسطين، وحبها ولوعتها لتلك (المسكينة اليتيمة)، بهذه الكلمات كانت تخبرنا عن ذلك البلد الذي نجهله. كانت تعيد على مسامعنا كل ليلة هذا الحديث وهي تناولنا الحلوى وغير الحلوى، وتحكي لنا بلوعة متجددة ما صار لتلك المسكينة:
"" فلسطين بنت صغيرة و حلوة، "بس مسكينة ويتيمة يا ستي، مالهاش حظ، متل أولادها، متلنا نحنا أولادها".
تكالب عليها اليهود الخنازير وحرموها أمها وأبوها وأولادها، يلي هنِّ نحنا يا ستي، إصحكم تنسوا أمكم، وأبوكم، وأرضكم، يا ستي. فلسطين أمكم، وفلسطين هي أبوكم، وفلسطين هي أولادكم، وهي أحفادكم. إصحكم تنسوا فلسطين يا ستي، فلسطين ما إلهاش إلا أولادها، يلي هم إنتم يا ستي."
_ أسألُها وهي تقشّر بيدين مرتجفتين حبة برتقال: شو صار لفلسطين يا ستي؟
_ تجيب جدتي: بهذاك اليوم الأسود، قال لي يابا: امسكي يابا، امسكي هالبقرة وجرّيها وراكي، بدناش نتركلهم البقرة يابا، هالبقرة أشرف منهم، وأحسن منهم.
جرّيها وما تخافيش من الرصاص يابا، هدول اليهود جبناء، والجبناء رصاصهم ما بيصيبش. أوعك تخافي يابا، الفلسطيني إذا خاف مات، ونحنا ما منموتش يابا، الفلسطيني ما بيموتش، الفلسطيني بيضل عايش وبيضل يقاتل ليرجّع أرضه، ويقلّع اليهود الكلاب.
_ أعود وأسألها وهي تكاد تنتهي من التقشير: أبوكِ ما ماتش يا ستي؟
_ تجيب: لا ما ماتش يا ستي، أبوي هناك لساه بفلسطين، لساه بيقاتل اليهود، ونحنا إسّا رايحين لعنده لهناك، مابقي إلا القليل يا ستي.
الفلسطيني ما بيموتش يا ستي، بيضل يقاتل اليهود، منشان نرجع يا ستي، نرجع عفلسطين. فلسطين يتيمة ومسكينة يا ستي، بنت حلوة كتير بس مسكينة ويتيمة، مالهاش حظ. فلسطين متلنا مالهاش حظ يا ستي، ومالهاش غير نحنا، ونحنا مالناش غير فلسطين.""
اليوم وبعد أن ماتت جدتي، اليوم في يوم الأرض أتوق إلى تلك البقعة التي أنجبت جدتي، جدتي التي صدّقت كل ما قيل لها، صدقت بأن الفلسطيني لا يموت، وصدقت بأن أباها لم يمت، وبأنه لن يموت. صدّقت بأن فلسطين طفلة غير كل الأطفال، لا تكبر ولا تشيخ ولا تموت. صدقت بأن فلسطين مسكينة ويتيمة ومعدومة الحظ مثلنا.
اليوم، وبعد أن كبرتُ يا جدتي، وبعد أن خبرتُ ما خبرت في هذه الحياة، اليوم أنا أصدقك يا جدتي. أصدقك وأُعيد من بعدك: فلسطين يتيمة ومسكينة، فلسطين لا تموت ولن تموت.
(فلسطين مالهاش غيرنا، ومالناش غيرها).
منقول
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء