pregnancy

بين التكفير والتحقير هل من خيارات أخرى؟..بقلم أ.جمال صالح جزان






بين التكفير والتحقير
هل من خيارات أخرى؟
.......................................................................................

لم تبرح الأصوات ،التي تنادي بالتجديد والإصلاح، ذم عقليّة الجمود والرجعية... ولاشكّ أنها محقّة في نفورها واستهجانها ،بل وحسرتها، لما آل إليه الواقع الحضاريّ والانسانيّ في المنطقة. كما أنها غير ملومة في تطلّعها إلى تجربة الحداثة الغربيّة والعمل على استلهامها والمضيّ في ركبها، فذلك من طبيعة الأمور إذا ما وعينا تفاعليّة التجربة البشريّة وحيويّتها التشاركيّة...
   
إلا أنّ تشخيص الوهن في الواقع المعاش، وإبداء مواقف الاستياء والتذمّر تجاهه... والتطلّع إلى تجارب الآخرين ومحاولات تمثّلها؛ لايعني ،بالضرورة، جلد الذات وسحقها في تجارب الآخرين!! إنّما هي الخطوة التي تجسّد اليقظة بعد الغفلة في عملية إعادة البناء الحضاري وتجلية الهوية المستقلّة، لخلق عقل إصلاحيّ تجديديّ يدير خطة متكاملة لها مراحلها ومقوّماتها، بما يحافظ على الثوابت وتوظيف المتغيّرات لبلوغ الأهداف.

على ضوء ذلك، يمثّل السؤال ،عمّا وصلت إليه حالنا، مسرحا لاختلاف الإجابات ووجهات النظر. إلا أنّ هذا الاختلاف لايعكس ،للأسف، الطبيعة التعددّيّة المحمودة لعمليّة التفكير الإنسانيّ؛ بقدر مايعكس تلك الذهنيّة التي امتهنت التجاذب والتمترس الأيديولوجيّ! 
      ولهذا يمكننا القول بأنّ التعدّد في هذه المسألة تحديدا، ليس بريئا وبعيدا عن المسبقات والخلفيّات والانتماءات بصبغتها العاطفيّة والانفعاليّة!

 لقد أدّت ذهنيّة التمترس هذه، محاطة بمجموعة من الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، إلى جرّ الجميع ،بكلّ تلوّناتهم وانتماءاتهم، إلى مستنقع التشدّد والعصبيّة؛ بحيث لم يعد اتّهام فريق لآخر بالرجعيّة والتخلف سوى رمي حجارة من حصن زجاجيّ!
وامتلك كلّ فريق رؤية مزدوجة؛ ينظر إلى نفسه ،من خلالها، بمرآة محدّبة، وإلى غيره بأخرى مقعّرة!

 فأصبحت كلّ عودة إلى الذات ممّن ينشد الأصالة؛ رجعيّة! وبات كلّ تطلّع إلى تجارب الآخرين ،وإن بقصد التطوّر؛ تبعيّة!  

هكذا تلاشت آمال النهوض، واتّسع الشرخ الأيديولوجيّ إلى الحدّ الذي أضحى عسيرا معه الرأب والتجسير...

 لقد وقع "العقل النهضويّ" في مأزقين أساسيّين جراء نهجه هذا:

•الأول: تفويت فرصة العودة إلى الذات بمنهج تأصيليّ، لقطع الطريق على العقل الكهنوتي الاستئثاري. ذلك العقل الذي ساهمت في نشوئه عوامل عديدة؛ على رأسها العامل السياسيّ البراجماتي، الذي ارتهن الدين وأقصى أبعاده الإنسانيّة عن ساحة السلوك الشعوري المعاش.  ومن هنا، لم تكن نظرة المثقّف العربيّ والمسلم إلى الدين الإسلاميّ والفكر الذي أنتجه بتجلّيه المعرفيّ، والاجتماعي، نظرة منصفة؛ حيث اكتنفها الكثير من المواقف المسبقة التي حالت بينها وبين الواقعيّة. ذلك أنّ الإسلام يمثّل تجربة إنسانيّة حضاريّة لابدّ وأن يقف عليها كل عقل يستجمع قوى النهوض والتقدّم. بل إنّ في كون البصمات الأولى لما سمّي (عصر النهضة العربيّة) التي ظهرت على أيدي أعلام مجدّدين ينتمون إلى المؤسّسة الدينيّة والفكر الدينيّ... خير شاهد على مانقول.

لذلك، لم يكن هناك من مبرر منطقيّ أو واقعيّ لاحتكار الحركة الثقافية، الفكرية، التغييرية، وحصرها في اتّجاه بعينه، ضمن الاتجاهات التي سادت واكتسحت الساحة بتفرّعاتها وما يدور في فلكها؛ قوميّة؛ أم يساريّةماركسية؛ أم إسلاميّة ضيّقة؛ أم ليبرالية. مشهد، يؤكّد هيمنة الأطر المسبقة التي قولبت التراث لإعادة تظهيره كما تريد. 

•الثاني: حيث شكّل غياب التأصيل في حركة "النهوض" مسارا انفعاليّا ارتداديّا، أفقد الجهود المبذولة الهويّة المستقلّة. فبعد التورّط في معركة مع الذات، لم يعد بالإمكان تحويل بوادر النهوض إلى مركّب حضاري فعليّ، كما يعبّر (مالك بن نبيّ) في كتابه (شروط النهضة)، واقتصرت النتائج على استيراد منتجات الحضارات الآخرى وتكديسها، لنصبح ،وللأسف، عالة على الآخرين، وندفع ثمنا باهظا جدّا؛ ألا وهو التبعيّة!.
لقد عشنا اضطرابا مزلزلا بين الذات والآخر، وفقدنا الدور والأثر، اللهمّ إلا في وطأتنا على أنفسنا، التي كانت ثقيلة، قاسية، مدمّرة لواقعنا، ومجتمعاتنا، وبيئاتنا؛ بحيث لم نعد نجد غضاضة في ممارسة الإقصاء والاختزال الفكريّ، والاجتماعيّ، والجسديّ!!؛ فلم يعد لدى "المتديّن"  سلاح أمضى وأقوى من (التكفير). ولم يعد يحظ "العلمانيّ" بمقاربة أكثر موضوعيّة وواقعيّة من (التحقير)!!.

ترى، ألم يئن الأوان للنظر من خارج الدوّامة؟!

جمال صالح جزان
شكرا لتعليقك