pregnancy

المبدعون وآفة سوء التقدير










المبدعون وآفة سوء التقدير
- نقد العرض ونقد النقد وتوابعه -



" من تعطّر يعرض نفسه " أصاب الشاعر المسرحي الفرنسي (بول فاليرى) كبد الحقيقة بمقولته تلك ؛ فإبداع المبدع ( الكاتب أو المخرج أو الممثل أو المصمم أو الموسيقي أو الراقص أو السينمائي) هو عطره . وعلى قدر نفاذ رائحة عطره يلفت إليه المحيطين بدائرة وجوده؛ ومن ثمّ يجذب أريج إبداعه من يجذب وينفر منه من ينفر، كل على قدر حاسته في التلقي الوجداني أو الإدراكى ، باستثناء الناقد الذي يتلقى أريج العمل الإبداعي على مرحلتين يطرب في الأولى مجبذا أو نابذا وتأتي في الثانية نقدية لا تقديس فيها ولا تدنيس ولا تنفيث.
وليس معنى ذلك أن النقد بعيد عن التفضيل والتفصيل والتحميل . لكنه بعيد بالضرورة كل البعد عن التحامل. . فالناقد لا يقترب من عمل لا يستهويه ، لكنه استهواء وليس هوى ؛ بمعنى أنه ميل لا انحياز فيه ؛ فالقاضي لا ينحاز لقضية مما بين يديه على حساب قضايا أخرى لا ينحاز لطرف علي طرف آخر فيما يعرض عليه . ولكنه قد يبدأ بملف قضية يكون في آخر مصفوفة الملفات التي أمامه دون أن يعني ذلك أنه سيفصل فيها بما ليس فيها ؛ بل ربما يكون اختياره البدء بذلك الملف راجع إلى صغر حجم الملف نفسه أو نظام تنسيقه ووضوح عرضه الموجز لموضوعه .

والناقد عندما يقع اختياره على عرض مسرحي من بين عشرين عرضا تابعها في موسم ما أو فعالية ما ؛ فإن ذلك لا يعني أن يكون له حكم سلبي غيبي على العرض أو على بقية العروض التي شاهدها؛ وإنما كان توجهه نحو عرض بعينه نوعا من التفضيل والتقدير أو نوعا من الاهتمام بذلك العرض محمولا على أسباب منها ما قد يكون اختلاف منظور العرض في نص ذي حيثية كنص ألفريد فرج عنه في عرض آخر برؤية أخرى تناولت النص نفسه من قبل ؛ دون تسرع أحدهم بفهم أن في مثل ذلك التناول النقدي المقارن تفضيلا لأحدهما على الآخر. ودون أن يعني الناقد بالنص ، لأن النص عندما يصبح أحد مكونات نسجية العرض ؛ فإن الحكم النقدي يحيط بمنظومة العرض وأثرها الدرامي والجمالي ، دون النظر إلى مكونات العرض منفردة . فكوب الليمونادة مزيج من ( ماء- عصير ليمون – سكر في إناء) اتخذ لونا آخر واتخذت المواد الصلبة هيئة أخرى ، وأصبح لذلك المزيج طعما له خصوصيته ومذاقه وأصبح له لونا آخر مغايرا تمام المغايرة للون كل مكونا من مكونات ذلك الخليط السائل. وهو غير قابل للعودة على النحو الأول لمادة كل مكون من مكوناته الأصلية .. وهكذا العمل المسرحي أو السينمائي أو التشكيلى أو الموسيقي .

والناقد كالباحث فكلاهما قاض ينظر فيما بين يديه؛ فيوصّفه ويقيّمه قبل أن يقوّمه. فإذا أخذ عليه كائنا من كان مؤاخذة تطعن على حكمه عدم رجوع نقده إلى نص المؤلف الذي قامت عليه عملية إنتاج العرض المسرحي؛ فهو مأخذ قد وقع في غير محل ؛ لأن الناقد(واجد واصف فمقوّم) فلئن أصل ما فصل وقوم ؛ فقد تجاوز دوره ناقدا فأضحي باحثا

والعرض المسرحي نسجية درامية جمالية كلية؛ لها عنوان مصطلح عليه هو العرض المسرحي. والناقد معني بنقده تحت تلك الهوية التي ليست بالضرورة جزءا من هوية النص، بل على العكس من ذلك فإن النص معروض هو جزء من العرض باعتباره إبداعا غير مكتمل ، حتى وإن كان بمثابة الجسد من العرض؛ فإنه يظل جسدا بلا روح إذا لم يعرض عرضا تتوحد كل عناصره وتنصاع لنداء روح الأداء الحي .
ومن بين الأرواح ما كان روحا باهتة أو روحا باردة أو روحا فجة روح نشوز. وما روح الإبداع إلاّ من نفح المبدع نفسه؛ فإذا كان لروحه نفح طيب جاء فوح إنتاجه طيبا زكيا، وإن لم يكن كذلك (فما تنفع الماشطة !!ز)

على أن فصل القول في جهد الناقد أو جهد المبدع .و كذلك في جهد مدرس أو عامل في أي نشاط نوعي .. ماثل في إخلاصه وفي إتقانه وفي خياله مع قدرته على التخييل بعناصر عرضه، فضلا عن تجديده الدائم لمعلوماته ومعارفه ورفد جهده بالعلم سعيا وراءه – كما أمرنا حتى حدود الصين أو من المهد إلى اللحد- دون أن يقتصر سعيه على علم حفظته حضارة الإسكندرية قبل غيرها منذ عهد ( بطلميوس سوتير) منشئ مكتبتها التي حفظت للعالم كله فن المسرح عندما استعار أعمال كبار المسرحيين الأغارقة ليستنسخها في مقابل ستة تالنت ذهبية بالعملة اليونانية القديمة وهي مبلغ ضخم –آنذاك- مكتفيا برد ما نسخه منها محتفظا بأصل نصوصهم المسرحية . كذلك لا يجب أن يقتصر فنان المسرح على علم الإسكندرية التي شهدت أول عرض مسرحي في مصر الحديثة على مسرحها الكبير ( زيزينيا) 1870- محل مبني النادي السوري امام مبني سينما أمير ش فؤاد - حيث عرض بتوجيه من الخديو إسماعيل عرض ( مي) المسرحية المأخوذة عن مسرحية ( هوراس) للشاعر المسرحي الفرنسي الكلاسيكي كورني ، بتعريب وإخراج (سليم النقاش- ابن شقيق مارون النقاش – رائد المسرح العربي) التي قدمت على مسرح زيزينيا الشتوى – مكان النادي السوري بمحطة الرمل –الآن-) بدعم (سير جون أنطونيادس- صاحب حدائق أنطونيادس بالنزهة) .

كما لا يجب أن يقتصر مخرج مسرحي حديث محترف أو في طور الهواية على علم الإسكندرية مما حفظ علماؤها ومؤرخو الفن العالميين من أدوارها في التأسيس الإبداعي لصناعة السينما وفنونها على يد محمد بيومي أو دورها في التأسيس الإعلامي حيث نشأت الصحافة وصناعتها في الإسكندرية على أيدي الشوام ، ولا يفوتهم الإلمام بدور ها المسرحية القديمة التي ذكر المؤرخون أنه قد كان بها 300 ملهى ودار عرض مسرحي حتى يوم دخلها الغزو الاستيطاني العربي المزمن ، قبل أن يحرق من حرق مكتبتها العامرة ومتحفها ويتسبب في انتقال دورها الريادي وعلومها إلى حوران بالشام ثم إلي :
جنديسابور ببلاد فارس..

إن الفنان بلا دعم علمي ومعرفي دائم وتغذية راجعة متجددة ومحدده لثقافته ولفنه سيصبح كالدودة التي تأكل براعم أوراق شجرة معارفها أولا بأول ، حتى لا يتبقى لها إلا الجذع العاري الضامر.
وإنه لأمر طبيعي وصحي أن يؤدي النقد إلى نوع من الألم للمبدع الذي يوجه النقد إلى جهده (إيجابا وسلبا) فلا جهد يخلو من إيجابيات وسلبيات في آن . ولا علم ولا تجويد لعمل حقيقي إبداعي أو غير إبداعي بدون معاناة قد تصل بصاحبها إلى حدود الألم . وقديما قال سوفوكليس : ( تألم .. تعلّم) وحديثا قال (يوجين أونيل رائد المسرح الأمريكي : ( الألم أسرع دابة توصلك إلى الكمال" والألم – في علم من يعلم- هو أهم فلسفة في الثقافة الهندية، وفي ثقافة المتصوفة الإسلاميين .. فإذا كنت قد تسببت بنقدي لأحد العروض المسرحية التي شهدتها ، بعد انتهاء التحكيم فيها أو من مقعد الضيافة ، من منطلق كوني ناقدا لا محكما ، إن كنت قد آلمت بنقدي مخرجها وفنانيها فما كان ذلك نوعا من التقدير أو التفضيل للجهد المبذول بغض النظر عن نتيجة رأيي بل هو غيرة علي صحة الحياة المسرحية ونمايئها وسعيا نحو دعم رسالتها وتجويد منتجها مواكبة لمدد التوالد الإبداعي العالمي . 
والتفضيل ليس معناه استحسانا للعمل أو استهجانا له وإنما التفضيل واقع على الجهد وعلى الاختيار، على أساس أنهما مناط عمل المبدع ومجموعة العاملين معه. 
أما مناط عمل الناقد فقائم على دور المخرج في تفعيل مفردات إنتاجه المسرحي في اتجاه تحقيق تصوره – إن كان يملك تصورا ما موازيا أو مغايرا لخطاب النص الذي وقع عليه اختياره – بوصفه صاحب الاختيار الأول للنص ولطاقم الممثلين والمصممين والفنيين ومكان العرض وتوقيته. 
وما الناقد إلاّ محللا أو مفككا لكيفية نظم المخرج لمفردات ذلك الإنتاج في شكل مسرحي ممتع ومقنع وصولا إلى قيمة تعبيره عن رؤية ما قد تتوحد مع خطاب النص الذي يخرجه فتبدو فقيرة الأثر والتأثير ، محدودة الخيال، وقد تتعارض معه تعارضا جزئيا عند إضافة مفردات العرض في ظل رؤية مفسرة تعمق خطابه وتكشف عن سر الإبداع فيه ، وعن سر التشويه في آن واحد .

والناقد لا يحل نفسه بحال محل المبدع ، ولكنه يعطي القارئ أسبابا مقنعة لاستمتاعه بما يعرض عليه . وهو في مسيرة عمله قد ينحت تعريفات جديدة ،كأن يقول (خرجة مسرحية) بدلا من ( تخريج) أو (إخراج) والخرجة كما يعلم من يعلم هي مناط فن شاعر الموشحات الأندلسية وبدون موهبته في وضع خرجة ملائمة لموشحه يحرد فيها موشحه من لباس الفصحي إلي لباس عامي اللهجة - لا يحسب من شعراء الموشحات. فالخرجة إذن مقدرة فائقة على حسن التخلص ودليل على تفوقه. 
وخرجة المخرج في عرض مسرحي تعني هوية فنه الذي ينفرد به دون غيره ، فإذا استملحت في نقدي تخريجات مبدع ما مؤلفا أو مخرجا أو ممثلا أو مصمما .... فلما يستهجن من يستهجن تخريجة ناقد !! 
والنقد هو أبو التخريجات وأبو البدع التي تؤدي إلى جنة التفنين والتقنين الإبداعي لا إلى نار التلقين والتكرار بل إلي ديمة التعدد وجنة تداولية التلقي بلا حدود.. فالنقد مفتاح باب جنة الإبداع والناقد رضوان بابها فهو المعلم بالضرورة وهو المعلم غير المحبوب بالضرورة أيضا. ومع ذلك لا يكف عن التعليم ، وعن التعلم معدلا لسلوكه النقدي ومعدلا لسلوك الإبداع والمبدعين في آن ، سواء حصّل علمه عن طريق الإسكندرية أو حصله عن طريق الفيوم أو عن طريق نيويورك أو بغداد ، فلا وطن للعلم ولا هوية قومية - إذ هو ليس فنا-فطرائق العلم وإن توشحت بالمنهجية إلا إنها متاجة بلا حدود . العلم نفسه لا وطن له. 
ورحم الله بيرم التونسي الذي قال: ( رسالة الناقد امتداد لرسالة الأنبياء)

الصورة لناقد يكتب رأيه في شيكسبير وبرنارد شو


د. أبو الحسن سلام

خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء

:)
:(
=(
^_^
:D
=D
=)D
|o|
@@,
;)
:-bd
:-d
:p
:ng
:lv
شكرا لتعليقك
Loading...