العبادة كمفهوم عمل في الإسلام
.......................................................................................
أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع عبارة (الرجوع الى الله)هو مجموعة من الملتحين يدفعون بالناس دفعاً لإرغامهم على الصلاة أو الصوم او ما شابه، ولكن الأمر ليس كذلك اذا ما أدركنا أن الله تعالى ليس مثلاً أعلى فحسب بل حركة وجود،
فالله الذي أوجد الكون والحياة متحركاً غير ساكن أوجدنا أيضاً على نفس الشاكلة متحركين غير ساكنين، ولذلك فالسكون والاستسلام وفقدان الأمل هو أبعد ما يكون عن الإنسان المؤمن.
خلق الله الكون بشكل تدريجي ومتطور ووفق قوانين طبيعية وسببية أوجدها هو، لكن مؤمنو اليوم يصرون على أن الله خلق الكون بطريقة أقرب للسحر منها للمنطق والعلوم، ويعممون هذه النظرة على حياتنا المعاصرة وعلى حياتهم اليومية فيريدون أن يحولوا كل ما حولهم الى معجزات وخوارق، ولا يرون حلاً إلا بمعجزات ولا خلاصاً الا بكرامة، وحقيقة الأمر هذه شيمة الكسالى والمتواكلين، فالمؤمن الحقيقي هو الذي يقر بالمنهج العلمي والسببي الذي به خلق الله العالم وليس الذي يقاطع هذا المنهج ويعتبره ضرباً من ضروب الدنيوية (الحياة الدنيا).
يقول الله تعالى في كتابه المحكم (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (39) سورة الدخان
فالله جلّ جلاله لم يخلق الوجود عبثاً ولا بقصد التسلية أو بقصد تعذيب الكائنات لا قدر الله، إنما خلق الوجود لغاية واضحة محددة وهي العبادة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) سورة الداريات
وكلمة عبادة تعني هنا العمل في الله تعالى، أو العمل محبة لله، ولا تعني فقط توحيد الله والخضوع له وتأدية الفرائض، فهذا المعنى هو المعنى الظاهري للعبادة، أما المعنى الجوهري فهو يعني العمل في سبيل الله تعالى. وكلمة عبد في اللغة العربية القديمة اي الآرامية او السريانية تعني خدم الإله اي عمل لله والعبد هو العامل او الخادم في المعبد؛ وما زلنا إلى وقتنا الراهن نقرن كلمة عبد بالعمل والخضوع.
وفي الحديث الشريف رأى النبي صلى الله عليه وسلم شاباً يتعبد الله في وقت العمل، فقام وسأله من يطعمك ؟
قال : أخي، فقال عليه الصلاة والسلام : أخوك أعبد منك، الذي يعمل هو العابد أكثر،الذي كانت يده هي العليا، لم يكن عالةً على أحد، لم يتكفف الناس .
ولا فتح عبد بابَ مسألة، إلا فتح الله عليه بها باب فقر
[أخرجه الترمذي عن أبي كبشة الأنماري]
نستنتج من هذا أن العبادة تعني أولاً العمل البناء بقصد إرضاء الله تعالى بما فيه العمل المهني الصالح القائم على العلم والمعرفة كما أنه يرتبط ثانياً بأداء الفرائض والعبادات وثالثاً بعمل الخير والمساعدة للناس والمجتمع.
ثلاثية العمل هذه تأتي تحت بند عمل الصالحات وهي تقترن اقتراناً وثيقاً بالإيمان نفسه، فالعمل الصالح هو دليل الإيمان وبرهانه،
ولهذا لم تأت عبارة (الذين آمنوا) في القرآن الكريم إلا وقد اقترنت بالعبارة المكملة لها وهي (وعملوا الصالحات) وقد وردت في القرآن الكريم مراراً
وقد يسأل سائلٌ طالما أن العبادة تعني العمل فلماذا استخدم الله تعالى كلمة العمل نفسها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم والجواب أن العمل هو أي نشاط عملي أو ذهني لم يقصد به وجه الله تعالى حتى لو كان عملاً جيداً او حسناً
لأن العبادة تعني العمل بقصد رضا الله سواء كانت حرفية أو بقصد الترزق والاتفاق على الذات أو الأسرة أو كانت تتعلق بالدرس أو البحث العلمي كلها تندرج تحت بند العبادة
وقد استنبط المجتمع منذ البداية هذا المعنى لهذا قيل (العمل عبادة)
إن هذا لا يعني أن العمل المجرد مزموم كونه خارج العبودية، بل هو عمل خير طالما يصب في مصلحة الإنسانية يجزي الله عنه خيراً
(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) سورة الرحمن
إلا أن العبادة جزاؤها مضاعف بحسب أهميتها العملية أو الحرفية والمسؤولية المرتبطة بها
ولأن الله ومن بعده الرسول الأكرم هو مثلنا الأعلى (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ۖ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (60) سورة النحل، فإننا كبشر من الواجب التمثل بكل صفات الله تعالى على قدر الاستطاعة البشرية ما عدا صفة الألوهية التي تقابلها لدى البشر صفة العبودية لله.
أما باقي الصفات مثل الرحمة والعلم والمغفرة والقوة والابتكار فهذه صفات واجبة على الإنسان المؤمن على قدر امكاناته الشخصية والعقلية.
وحينما خلق الله الأكوان كان بوسعه أن يخلقها لو أراد بلمح البصر لكنه أراد أن يعلمنا العمل فكان أول ما علمناه من أفعال الله تعالى هو خلق الوجود (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (4) سورة السجدة.
فالله جل في علاه حينما استغرق خلقه للأكوان ستة أيام (نسبية) فهذا ليس لعجز منه -لا قدر الله- إنما ليكون مثلنا الأعلى في العمل والمثابرة والاجتهاد والابتكار والاستمرار فيصبح العمل بالنسبة لنا كبشر أولوية وعبادة وأرجحية وأعظمية في حياتنا،
فتكون الاستراحة والسكون جزءاً يسيراً من حياتنا نستعيد من خلالها الطاقة لمعاودة العمل من جديد.
علي حسين الحموي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء