الثورة العلمية والفلسفةالمادية ماركس وانجلز
.....................................................................................
علم الثوري:
يوضح توماس كوهين، في كتابه الممتاز "الثورة الكوبرنيكية"، كيف أن تلك الثورات العلمية المبكرة التي شهدتها بداية عصر البرجوازية هي حالة نموذجية للطريقة التي يتطور بها الفكر العلمي بشكل عام.
لقد قدمت وجهة نظر بطليموس ما وصفه كوهن بأنه "إطار نظري" (“paradigm”) يمكن من خلاله "للعلم العادي" أن يسير:
تراكم البيانات الفلكية الجديدة؛ الملاحظة على مستويات أكثر دقة وتوسيع الإطار النظري إلى مجالات جديدة.
لكن هذا التراكم الكمي يصل في نهاية المطاف إلى التناقض مع الإطار النظري القديم ويؤدي إلى دخول النظرية القديمة في أزمة.
حينها تظهر الحاجة إلى نوع مختلف من العلم: "العلم الثوري"، والذي وحده من يمكنه هدم الكثير من النظرية القديمة وإقامة إطار نظري جديد في مكانها.
طرح كوبرنيكوس علما فلكيا جديدا تماما حيث تدور الأرض والكواكب حول الشمس.
في عام 1543، طرح كوبرنيكوس علما فلكيا جديدا تماما في كتابه De Revolutionibus، لدراسة العدد المتزايد من الملاحظات المتناقضة.
لقد عملت نظريته الفلكية حرفيا على قلب نظرية بطليموس "رأسا على عقب".
وبدلا من أن تكون الشمس هي التي تدور حول الأرض صارت الأرض - مع بقية الكواكب- هي الي تدور حول الشمس.
وتم شرح الحركات الظاهرية المعقدة للكواكب عبر السماء.
إن التطور الديالكتيكي للعلم، من خلال تحول الكم إلى كيف، يوضح ليس فقط منطق الثورة الكوبرنيكية، بل كل الثورات الحقيقية التي عرفها العلم.
لقد حققت أفكار كوهن، بسبب قدرتها على التفسير، قبولا واسعا في الأوساط الأكاديمية، لدرجة أن تعابيره ("تحول الإطار النظري" و"العلم الثوري"، إلخ) قد أصبحت مصطلحات مستعملة على نطاق واسع وبشكل مفرط. في الحقيقة إن ما اكتشفه كوهن (أو بتعبير أدق: أعاد اكتشافه) هو الديالكتيك في مجال البحث العلمي.
في الواقع، تُظهر الفقرة التالية من مفكرات تروتسكي الفلسفية كيف أن أفكار كوهن مشابهة لأفكار النظرة الديالكتيكية الواعية للعلم:
«تاريخيا، تشكل الإنسانية "مفاهيمها" -أي العناصر الأساسية لتفكيرها- على أساس التجربة، التي هي دائما غير مكتملة وجزئية وأحادية الجانب.
وتدخل في "المفهوم" مميزات السيرورة الحية والمتغيرة دائما، والتي تعتبر مهمة وضرورية لها في لحظة معينة.
ثم تعمل تجربتها المستقبلية في البداية على إغناء المفهوم المغلق [كميا]* ثم تتجاوزه، أي أنها في الواقع تنفيه، وبموجب ذلك تستلزم نظرية تنفيه.
لكن النفي لا يعني العودة إلى نقطة البداية (Tabula rasa). إن العقل يمتلك بالفعل: أ) المفهوم و ب) الاعتراف بأوجه قصوره.
ويشكل هذا الاعتراف اعترافا بضرورة بناء مفهوم جديد، وهو ما يوضح أن النفي ليس نفيا مطلقا، وأنه يؤثر فقط على سمات معينة من المفهوم الأول...» *[الإضافة من عندي:
بن كوري].
لكن كوهن ليس مفكرا ديالكتيكيا واعيا وبالتالي فقد كانت لاكتشافاته بالضرورة أوجه قصور. كانت أكبر أوجه القصور في فكر كوهن هي نظرته لتطور العلوم بمعزل وباستقلال عن التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام.
إذا عدنا إلى الثورة التي قام بها كوبرنيكوس، يمكننا أن نرى كيف أن علم الفلك القديم كان قد دخل بالفعل في أزمة قبل قرون من ولادة كوبرنيكوس.
لم تكن الملاحظات أو الاكتشافات الجديدة هي التي أدت في النهاية إلى تغيير النظرة.
لم يتم اكتشاف التلسكوب وتطبيقاته على علم الفلك من قبل غاليليو إلا بعد مرور عدة سنوات على وفاة كوبرنيكوس.
كما أن الأزمة نفسها لم تؤدي تلقائيا إلى قيام "العلم الثوري".
كانت بالأحرى الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، وصعود طبقة ثورية - طبقة البرجوازيين والحرفيين والتجار- هي التي أعطت قوة الدفع للثورة في العلوم.
كان ظهور هذه الطبقة، بمعارضتها الثورية للإقطاع واعتمادها على نمط إنتاج يستلزم التثوير الدائم للتقنية والعلوم، هو الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العلم حتى بروز البروليتاريا الثورية.
وهو الذي أدى إلى الثورة العلمية.
نيوتن والمادية الميكانيكية
مع كوبرنيكوس بدأت ثورة علمية، تطورت من خلال تايكو براهي وكبلر وغاليليو وآخرين، لتصل إلى الاكتمال إلى هذا الحد أو ذاك في شكل "قانون الجاذبية العام" لنيوتن. حيث تمكن نيوتن، في كتابه Principia، من توحيد فيزياء الأرض والكواكب.
هنا على الأرض من المستحيل تجنب الديالكتيك الذي يواجهنا عند كل منعطف. كل شيء هنا له تاريخه، كل شيء ينتهي وهو في حالة تغير مستمر. لكن بالنسبة للكواكب تبدو الأشياء مختلفة جدا، فهي خالدة وتتكرر حركاتها إلى الأبد، من دون ماض أو مستقبل.
إن التشابه بين هذه الحركة المنتظمة والمكررة والمتوقعة للكواكب وبين الحركة الميكانيكية لدواليب الساعة كان معروفا منذ آلاف السنين. بل إن أحد المهندسين اليونانيين القدماء تمكن فعلا من صنع آلة متقنة لحساب حركات الكواكب. إلا أن الثورة التي أحدثها نيوتن في الفيزياء فضحت ضعف وحدود النظرة التي تعتبر الكواكب وكأنها قطعة ساعة خالدة لا تتغير. وباختصار لقد أدت في النهاية إلى إدخال الديالكتيك في فهمنا لعلم الفلك وعلم الكون.
في معركته ضد الكنيسة الكاثوليكية، والتي أدى خلالها ثمنا باهضا، دافع غاليليو عن وجهة نظر كوبرنيكوس بالاعتماد ليس على الحجج الميتافيزيقية، بل على ملاحظاته عن الطبيعة المتغيرة والديالكتيكية للكواكب. بالنسبة لغاليليو كانت أفضل الحجج ضد التصور البطليمي للكون هي ملاحظاته على البقع الشمسية والانفجار النجمي، التي أثبتت موت الكواكب وترابطها مع "قوانين الطبيعة" كما نلاحظها على الأرض.
لكن نيوتن كان عبدا للاتجاهات الفلسفية المعاصرة له.!
لكن نيوتن كان عبدا للاتجاهات الفلسفية المعاصرة له، بل إنه في الواقع لم يكن لديه وقت لدراسة الفلسفة. وقد لخص احتقاره لكل ما يتعلق بالفلسفة في تعبيره الشهير: "أيتها الفيزياء احذري من الميتافيزيقا" (أي احذري من الفلسفة).
لكن الطبيعة تمقت الفراغ، وفي غياب أي نظرة فلسفية واضحة، من الحتمي أن يقع المرء تحت تأثير الأفكار والأحكام السائدة في المجتمع. وبالنسبة لنيوتن جاء هذا التأثير من
كان ذلك المفهوم الفلسفي قد نشأ في إنجلترا مع فرانسيس بيكون وتم تطويره على يد جون لوك. ووفقا لذلك التصور ليس العالم شبكة من العمليات المترابطة والمتناقضة كما يراه الديالكتيكي، بل مكون من كيانات منعزلة وغير مترابطة ومستقلة تتبع قوانين بسيطة وميكانيكية يمكن التنبؤ بها كما هو الحال بالنسبة لحركة أجزاء الساعة.
تحت حكم الطبقة البرجوازية الإنجليزية، التي جاءت إلى السلطة قبل نظيراتها الأوروبيات على أساس ثورة عملاقة، لكنها كانت حريصة على شطب ماضيها الثوري، كانت النظرة التي تعشق التجريبية وتتحاشى التعميمات النظرية العامة، نظرة ذات فائدتها كبيرة لها.
ومن خلال وضع "الحقائق" في معارضة السيرورات العامة والتناقضات الأوسع نطاقا، التي وحده الفكر النظري من يمكنه أن يكتشفها، وجد التصور الجامد الإصلاحي للتاريخ أساسه الفلسفي. وعلى الرغم من العديد من التطورات التي عرفها مجال العلوم، فإن النزعة التجريبية الإنجليزية استمرت، وما تزال مستمرة، في التقليل من شأن العلوم والفلسفة، لا سيما في العالم الأنجلوساكسوني.
بالنسبة للمنظور الميكانيكي يختفي التاريخ والأحداث العرضية وغير الخطية، حيث يتم نزع كل ظاهرة من سياقها ويتم التخلص من التطور والتغيير. وعلى الرغم من أن القانون القائل بأن «لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه» هو قانون ديالكتيكي بطبيعته؛
فإن المادي الميكانيكي يتصور العالم وكأن هناك "قوى" خارجية - منفصلة عن مجموع العلاقات الطبيعية - تشوش على حركات الأشياء الخطية وغير المتغيرة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
إذا لم يكن لدى الكواكب مستقبل ولا ماض، وقد اتبعت دوما حركاتها الدورية الحالية، فكيف استطاعت تحقيق ترتيبها الحالي؟
بالنسبة للديالكتيكي يعتبر السؤال قائما على فرضية خاطئة لأن الكواكب في سيرورة مستمرة من التطور والتغيير.
أما بالنسبة لنيوتن فإن الإجابة لم تكن موضع شك:
فقد كان الله هو الذي أعطى للكواكب شكلها الحالي.
كان "صانع الساعات الذكي"، على حد تعبير ويليام بيلي، هو الذي جعل هذه الساعة العملاقة تتحرك.
وما هو صحيح بالنسبة للكواكب صحيح بالنسبة للأرض أيضا.
فمثلما كان النظام الشمسي يتمتع دائما بالترتيب الذي نراه فوقنا، فإن الأرض وقاراتها ومحيطاتها والكائنات التي تسكنها، ظلت دون تغيير منذ لحظة الخلق.
ها نحن نرى كيف أن هذه المادية، التي تحاول التعامل مع العالم بطريقة ميكانيكية وليس بطريقة ديالكتيكية، يمكن وصفها بأنها شبه مادية وتؤدي في الواقع إلى العودة إلى المثالية.
الدماغ الميكانيكي: يتبع جزء سادس
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء