pregnancy

العادي مثلنا ..محمد الماغوط -بقلم الأستاذ عبد الكريم حورية




العاديُّ مثلنا.... محمد الماغوط 
.......................................................................................

( وأنا هائمٌ في الطرقات ، أصافحُ هذا وأودع ذاك ، أنظرُ خلسةً إلى الشرفات العالية ، إلى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني في الثورات المقبلة ، فأنا لم أجُع صدفةً ، ولم أتشرّد ترفاً ، وما من سنبلةٍ في التاريخ إلا وعليها قطرة من لعابي ) 
يلحّ عليَّ هذا المقطع من قصيدة " الغجري المعلّب " لمحمد الماغوط الذي تمرُّ في هذه الأيام ذكرى رحيلهِ الثالثة عشر ، وأنا أنظر بأسى الى ما آلت اليه الأمور ، وأحاولُ وأنا أتفادى الحفر المبذورة في الطريق أن أكمل معهُ ( ما من قوةٍ في العالم ترغمني على محبةِ ما لا أحب ، أو كراهية ما لا أكره ، ما دام هناك تبغٌ وثقابٌ وشوارع ) .
الماغوط الذي انتصرت قصيدتهُ بعد موتهِ ، وبعد الثورات التي بدأت نقيّةً مثل شِعرِه ، ووصل بها الحالُ الى اختطاف الشعريّ فيها ، مرةً باسم المصلحة الوطنية ومرة باسم الدين ،  لا يشبهُ الذين يظهرون اليوم في الفضائيات بعد أن نصّبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الشعب والوطن ، لم يتغيّر كما تغير المناضلون القوميون إن كانوا على الشاشات أو في غرف المؤامرات السرية ، لم تكن له أموالٌ في البورصة مثل الشيوعيين القدامى ، ولم يبحث عن المجد مثل شعراء جيلهِ الذين وقفوا في الطوابير أمام صحراء اللغو بانتظار الرضا ، كان يقولُ عن نفسه ( في الأوقات العادية أكون عادياً جداً ، وفي الأزمات أكون محمد الماغوط ) .
مثله مثل أحلامنا ظلّ محمد الماغوط طريد السلطة الغبية والفقر وضيقَ الأفق  ، غادر بلدتهُ وعمره أربعة عشر عاماً وهو يقول ( كنتُ سأدرسُ الهندسة الزراعية ، وفجأةً احسستُ أن اختصاصي ليس الحشرات الزراعية ، بل الحشرات البشرية ) وبدأ منذ ذلك الحين - مغامراً بكل شيئ - كتابةَ الشعر قائلاً (لن أجوع أكثر مما جعت ، ولن أتشرّد أكثر مما تشردت ، ولن أُهان أكثر  مما أُهنت ، ولن أُسحقَ أكثر مما سُحقت ، وسأظلُّ حفرةً في كل طريق ، وخريفاً في كل غابة ، وظلاماً في كل شارع ، وأنيناً في كل عرس ، وضحكةً في كل مأتم ، حتى تستقيم الأمور لأجيالٍ جديدة ، وأفكارٍ جديدة ) .
عندما تقرأ ما كتبهُ عن مدينتهِ سلمية قبل عقود ، لا يخامركَ شكٌّ أنهُ كتبها عن سورية كلها هذه الأيام ( يحدّها من الشمال الرعب ، ومن الجنوب الحزن ، ومن الشرق الغبار ، ومن الغرب الأطلال والغربان ، فصولها متقابلةٌ ابداً كعيون حزينةٍ في قطار ) .
لم يكن للماغوط أصدقاء ، أحبَّ عزلتهُ وحافظ عليها ، وأحبَّ الجماهير كثيراً وهي بعيدةٌ عنه ، مع ذلك يؤكد ( لم تخذلني الجماهير أبداً مع أنني كنتُ قاسياً معها ، ولكنها قساوة أبٍ مع أطفاله ) متمنياً على الدوام  أن لا يكون أكثر من ( حصاةً ملونةً في على الرصيف ، أو أغنيةً طويلةً في الزقاق ) .
كان الماغوط مثل الذين ثاروا في كل مكان ، مثلنا جميعاً ، يضربهُ شيخ الحارة في طفولتهِ كي يحفظ ويتذكّر ، ويضربهُ الشرطي بعد ذلك لكي ينسى ، مع ذلك ظلَّ يردد  ( لكنني لن أموت دون أن أغرقَ العالم بدموعي ، وأقذفَ السفن بقدمي كالحصى ). 
لم يكن محمد الماغوط شاعراً سورياً فحسب ، كان سليل القهر الذي جرف الإنسانية برمّتها إلى ما آلت إليه ( كل حقول العالم ضدَّ شفتين صغيرتين ، كل شوارع التاريخ ضد َّ قدمين حافيتين ) .
كلما اقتربتُ من محمد الماغوط أشعرُ أنني أتعرف عليه للمرة الأولى ، وفي كل مرة أتمنى أن أفعلَ مثلهُ ( أحشو مسدسي بالدموع ، وأملأُ وطني بالصراخ ) ، ولأنني بعد الآمال العظيمة التي سُحقت، والمطامحُ الكبيرة التي اختُطفت ، أكاد أن أصيح مثلهُ : 
 ( لا أملكُ حتى طفولتي... لا أملكُ سوى أخطائي ) .

الأستاذ عبد الكريم حوريه
شكرا لتعليقك