الحجاب كميراث تاريخي من حضارات قديمة !
.......................................................................................
يظن الكثير من المسلمين وغيرهم ،أن حجاب "النساء" خاص بهم ولم تسبقهم اليه أمة من الأمم،ولا عرفه بعدهم شعب من الشعوب .واذا كان حقا أن المسلمين كانوا آخر من فرض الحجاب على النساء ،فليس حقا أنهم كانوا أول من أستن هذه السنة .فقد سبقهم اليه شعوب وحضارات اخرى ،لذا سنقتصر مقالتنا على تتبع تطور ظاهرة "الحجاب"في المجتمعات القديمة من خلال نماذج حضارية شهدها عالم ما قبل الميلاد ،دون الدخول في تعريف الحجاب والموقف الفقهي منه وذلك بحث أخر ليس مجال سرده في هذه العجالة .
النموذج الاول :الحجاب في المجتمع الاشوري :
: الاشوريون من أقدم الشعوب التي أخضعت النساء للحجاب ،فقد عثرت البعثة الألمانية فيما بين عامي 1902 و1914 في حفائر أشور القديمة شمال العراق ،على لوحات طينية مهشم جانب منها لسوء الحظ ، ترجع الى القرن الثاني عشر قبل الميلاد تتضمن قواعد قانونية أقدم من ذلك عهدا تعود الى عهد الملك الاشوري "تجلات بليسر الاول "أي من القرن الخامس عشر قبل الميلاد..وفي احدى فقرات اللوحة الاولى،وخاصة المادتان /40- 41/ منها نجد بيانا مفصلا عن نظام الحجاب من حيث تحديد الفئات النسائية المفروض عليهن الالتزام به ومن لا يحق لهن ذلك .
ومنه نستشف أن الحجاب كان مطبقا على الحرائر _زوجات وبنات كل سيد _وكذلك بالنسبة للجاريات المرافقات لسيداتهن ، أما العاهرات وألاماء فقد كان الحجاب محرما عليهن ،والمرآة منهن التي كان يتم القيض عليها وهي مرتدية الحجاب بدون حق فكانت تخضع للعقاب بالجلد وصب القار على رأسها وقطع أذنها ،وتبين فقرة أخرى من نفس اللوحة الاجراءات التي ينبغي أتباعها عندما يريد الرجل أعطاء الأمة صفة الزوجة فتقضى بأن عليه ان يستدعى خمسة من جيرانه ويحجبها أمامهم قائلا "أنها زوجتي "فتصبح زوجة له .
ويبدو بأن هذه الاجراءات بحسب احد الباحثين في علم "الاشوريات "،توضح بأن الحجاب "غطاء الراس والوجه"،لم يكن يستخدم فقط لتميز الطبقات العليا ،وأنما كانت وظيفته الأسا سية طبقية مرتبطة بالاحرار والأشراف من نساء المجتمع المتزوجات فقط ، ،اي أن استخدام الحجاب كان يلعب دورا في تصنيف النساء تبعا لأنتمائهم الاجتماعي ،فكان ارتداؤه مؤشرا أيضا للرجال لجهة تميز النساء الواقعات تحت الحماية الطبقية عن غيرهن من شرائح المجتمع الدنيا ..
النموذج الثاني :الحجاب في المجتمع الفارسي :
عندما تدهورت المجتمعات الاشورية والبابلية وبزغت فارس بحضارتها الساسانية وديانتها "الزرادشتية "،كانت الاضافة التي اضافتها الى جانب فرض الحجاب على نسائهم هي ظهور "الحريم "الذي الحق بحاشية الحاكم وافرد له جناح خاص ،فأنتشر الحجاب وخاصة عزل النساء على المنطقة بأكملها ،ليأخذ شكل الممارسة الاجتماعية العامة .
ففي الرسوم والنقوش التي خلفها الفن الفارسي والتي تحكي مشاهد الحياة اليومية للناس لا نجد أثرا للمرأة،كما يروى عن احد ملوكهم أنه أقام مأدبة للرجال في مقصورته الخاصة بينما كانت زوجته تستقبل النساء في مقصورة أخرى ،وعندما دعا الملك الملكة الى القدوم عليه رفضت الظهور امام الرجال .وتجدر الأشارة الى أن النظرة الاجتماعية للمرأة كانت دونية بتأثير من الزراداشتية التي أشارت في احدى قواعدها الى ان المرأة كانت تحتل "موقعا وسطا ما بين الانسان والمتاع "،لذا فهي مطالبة بالطاعة التامة لزوجها وعليها صباح كل يوم ..ان تقف أمامه وتنحني له تسع مرات مادة ذراعها ..تحية له ،مثلما يفعل الرجال في صلاتهم الى "اوهرا مازدا ".
ولهذا اعتبرت" المرأة" كائنا غير مقدس ،ما يلزمها "بربط عصابة على فمها وأنفها كيلا تدنس انفاسها النار المقدسة "ثم تحولت عصابة "الانف والفم "في المجتمعات الفارسية الى جلباب تلبسه المرأة من راسها الى قدمها ،ولكنه كان خاصا بالحرائر ونساء علية القوم ،ولا يجوز للاماء ونساء العوام ارتدائه .
النموذج الثالث :الحجاب في المجتمع اليوناني :
كذلك فرضت" اثينا |"ومعظم بلاد اليونان الحجاب على النساء الحرائر وأعفت منه الاماء والبغايا .ففي دار ابيها كانت الفتاة تقبع في ركن الحريم لا تغادره حتى زواجها فتنتقل الى بيت زوجها .ولم يكن الزواج يخول المرأة حرية الاختلاط بالرجال ولا حرية الخروج من المنزل ألا بأذن زوجها ،ولم يكن ذلك الا لسبب وجيه كزيارة قريبة أو عيادة مريض او اداء واجب عزاء .
وفي تلك الحالات التي يسمح بها للمرأة بالخروج كانت التقاليد تلزمها بوضع حجاب ثقيل يخفي معالم الوجه ،يصف المؤرخ "ديكايرش "حجاب نساء" طيبة "،احدى المدن اليونانية ،فيقول (انهن كن يلبسن ثوبهن حول وجهن بطريقة يبدو معها هذا الاخير وكأنه قد غطى بقناع ،فلم يكن يرى سوى العينين "فضلا عن ذلك كان من اللازم أن يرافقها أحد أقاربها من الذكور أو أحد الارقاء . وكان بعض الازواج لا يكتفي بما كانت تفرضه التقاليد على حرية المرأة فكانوا (يضعون أقفالهم على أبواب دورهم عندما يتغيبون رغبة في زيادة الاطمئنان) .
وقد وجد من الكتاب والفلاسفة اليونانيين من طالب بالغاء نظام الحجاب ،فيقول الكاتب "ميناندر"مثلا :(على الزوج ألا يرتئي احاطة زوجته برقابة متطرفة وحبسها في أغوار منزله ..اتركوها ترى كل شيء وتذهب حيث تشاء ،فأن حب استطلاعها سيشبع ولن تفكر في فعل السوء ،فما يحجب عنا يهيج رغباتنا ،وهذا بالنسبة للرجال والمرأة سواء بسواء .فالزوج الذي يبقى زوجته وراء المزاليج يظن أنه يسلك مسلك الرجل الحكيم ،ما هو في الحقيقة الا رجل أحمق ).
اما افلاطون فقد طالب بضرورة اتاحة الفرصة للفتاة( لتتلقى الثقافة التى يتلقاها الفتى ،وبأن تكون المدارس مشتركة للجنسين معتقدا انه يذلك يقل احساس الفتيان والفتيات - نتيجة رؤية بعضهم البعض منذ الطفولة - بالتعارض وعدم الاكتراث الذي كثيرا ما يسبب الشقاق بين الجنسين لاسيما اثناء الزواج ).
النموذج الرابع :الحجاب في المجتمع المصري القدبم :
لم يعرف المصريون القدماء فكرة انفصال الجنسين وحجاب المرأة،بل كانت المرأة المصرية في العصر الفرعوني تتمتع باكبر قسط من الحرية تمتعت به امرأة في شعب من الشعوب القديمة ،فساهمت بذلك في نصيب واسع من الحياة الاجتماعية . ويبدو ذلك واضحا من نقوش المقابر التي تصور مظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة .فالمرأة من عامة الشعب كانت تذهب الى الأسواق سافرة تحمل اليها ما تريد بيعه وتأتي منها بما ترغب في شرائه .وتخرج الى الحقل لمساعدة زوجها في البذر والحصاد .
وعندما قدم "هيرودوت "الى مصر ،في القرن الخامس قبل الميلاد ،ادهشته حياة التحرر والاختلاط التي تحياها المرأة المصرية -وهو رجل قد اعتاد في بلده على رؤية النساء بقعدن في البيوت ويحتجبن عن الرجال -فكتب في كتابه "تاريخ العالم ":(المصريون نظرا الى مناخ بلادهم الخاص ،والى ان نهرهم له طبيعة خاصة مغايرة لطبيعة سائر الانهار ،قد اتخذوا لانفسهم عادات وسننا مخالفة من كل الوجوه تقريبا لما يتخذه سائر الشعوب ..فالنساء عندهم يذهبن الى الاسواق ويمارسن التجارة ،اما الرجال فيبقون في البيوت وينسجون ).
على ان هناك دلائل تشير الى ان الحجاب قد عرف طريقه الى مصر في بعض العصور التي تميزت بالفتن الداخلية و بالغزو الاجنبي ،ويدلنا على ذلك بعض النقوش التي تعود الى عهد رعمسيس الثاني يفخر بها بالانتصار على اعدائه (وامكن كل امرأة ان تسير خارج منزلها كما تريد رافعة قناعها بلا خوف ولا وجل، لم يعد احد يتعرض لها ،وجعلتها تذهب كما تشاء مكشوفة الاذ نين فلا يتعرض لها اجنبي او غيره ).
خاتمة :
يتضح من العرض السابق ان الحجاب كان نظاما شائعا في يلاد الحضارات القديمة ،وهي البلاد التي خضع معظمها للعرب بعد الاسلام ،فاختلطوا باهلها ،ونهلوا من ثقافاتهم وتأثروا بتقاليدهم وعاداتهم .ولعلنا لا نجاوز القصد اذا قلنا ان أخذ العرب والمسلمين بنظام الحجاب الشائع اليوم في بلاد كثيرة كان مظهرا من مظاهر هذا التأثر !
الأستاذ
محمد شقا ل
لوحة المظلات للفنان رينوار..رائد المدرسة الانطباعية.
(1841 –1919)
لوحة المظلات للفنان رينوار..رائد المدرسة الانطباعية.
(1841 –1919)
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء