.. « اسبانيا في القلب » لنيرودا :
.. ( الشعر والحرب والكتاب )
.......................................................................................
الطبعة المتداولة ، والمترجمة إلى لغات عدة ، من عمل [ بابلو نيرودا ] الشعري الكبير « اسبانيا في القلب »، نشرت في فرنسا مع مقدمة شهيرة كتبها الشاعر الفرنسي { لوي آراغون }. غير انه كانت هناك طبعة أخرى أولى، استند إليها نيرودا في انجازه الطبعة الباريسية... وفي الطبعة الأولى هذه يروي الشاعر بنفسه ظروف طباعتها في كتاب مذكراته الشهير « اعترف بأنني قد عشت » (صدر مترجماً إلى العربية في النصف الثاني من السبعينات في بيروت ) : « لقد مر الزمن وبدأنا نخسر الحرب. ولقد صاحب الشعراء الشعب الاسباني في نضاله. فدريكو ( غارثيا لوركا ) كان أغتيل في غرناطة، و" ميغيل ايرناندث " تحول من راعي عنز إلى مناضل حقيقي ... هو الذي كان ينشد أشعاره وهو في الزي العسكري في الخط الأول من المعركة الملتهبة. أما " مانويل التولاغيرا "، فقد واصل العمل على مطابعه : نصب مطبعة في حمأة المعركة في الجبهة الشرقية، قرب خيرونا في دير قديم. وهناك طبع مانويل في شكل فريد من نوعه ديواني « اسبانيا في القلب ». واعتقد انها قليلة جداً تلك الكتب التي كان لها تاريخ غريب مثلما كان لهذا الديوان من مخاض عجيب ومن مصير غريب. فالجنود في الجبهة، من أجل طباعته، تعلموا صف حروف المطبعة ... كلهم معاً. وجدوا طاحونة قديمة فقرروا ان في الامكان تحويلها إلى مطبعة وطبع الكتب هناك. والحال أن ما صنعوه كان خليطاً غريباً، بين القنابل المنهمرة ، وسط صخب المعركة. كانوا يقذفون كل شيء في الطاحونة لكي يتحول إلى ورق، من راية للعدو إلى عباءة مدماة لجندي مغربي (من الذين كانوا يحاربون إلى جانب الديكتاتور فرانكو). وعلى رغم أن هذه المواد لم تكن متناسقة، وعلى رغم قلة خبرة الأيدي الصانعة، خرج الورق بديعاً جداً. والحقيقة أن ما هو محفوظ، حتى يومنا هذا من نسخ قليلة لهذا الكتاب المدهش، يبدو استثنائياً، بما فيه من وضوح الحروف والطباعة التي لم يكشف صانعوها عن سرها. وأذكر هنا انني رأيت بعد ذلك بسنوات عدة، نسخة من تلك الطبعة في مدينة واشنطن وتحديداً في مكتبة الكونغرس موضوعة في واجهة زجاجية تحتوي على ما أشير إليه من انه « أكثر الكتب غرابة » في زمننا...».
كتب { بابلو نيرودا } قصائد « اسبانيا في القلب » على وقع انخراطه في الحرب الأهلية الاسبانية، إلى جانب القوى الجمهورية والتقدمية، وذلك حين كان مقيماً في اسبانيا، برشلونة ثم مدريد، عاملاً في السلك القنصلي. وكان قبل ذلك تنقل بين مدن عدة منها رانغون وكولومبو وكلكتا، وجاوا (حيث تزوج في العام 1930) ثم سنغافورة، ليصل بعد ذلك إلى اسبانيا. وفي اسبانيا كانت ارهاصات الحرب الأهلية بدأت ، وبالتواكب ، كانت بدأت تختمر إرهاصات الوعي السياسي لدى" نيرودا "... لا سيما حين اندلعت الحرب الأهلية بالفعل وكان صديقه الشاعر " وركا " من أول ضحاياها الكبار. و نيرودا نفسه يروي لنا كيف أثر فيه اغتيال لوركا، الذي كرس له أكثر من قصيدة في « اسبانيا في القلب » : « فدريكو غارثيا لوركا لم يعدم رمياً بالرصاص. بل اغتيل . بديهياً ما كان يمكن أن يخطر في بال أي منا أن الفاشيين سيقتلونه يوماً. ما كان لهذه الفكرة أن تداعبنا. فهو كان، من بين الشعراء الاسبان، الشاعر المحبوب أكثر من غيره، ببهجته الدائمة وطلّته الطفولية. ترى من كان ليعتقد ان ثمة فوق البسيطة، ولا سيما فوق أرض اسبانيا، مردة من المسوخ القادرين على ارتكاب جريمة بشعة تعصى على التفسير مثل هذه ؟ ان وقوع تلك الجريمة كان ، بالنسبة الي ّ، أكثر فصول ذلك الصراع الاسباني الطويل مدعاة للألم ».
اذاً، انطلاقاً من تلك الجريمة، استل نيرودا قلمه، وسط المعركة، وراح يتذكر ويكتب، واصفاً اسبانيا التي كانت دائماً ساحة للصراع، أرضاً تغطيها سيول من الدماء. و « ها هي اليوم حلبة مصارعة الثيران بقرابينها الضحايا، بأناقتها الوحشية، تعيد ذلك الصراع الطويل والدائم بين النور والعتمة ». ويتذكر أيضاً : " فراي لويس دي ليون " تسجنه محاكم التفتيش،" كيبيدو " يموت في زنزانته سجيناً " كريستوف كولومبوس" " يسير الهوينى " والسلاسل في قدميه. أما المشهد الأعظم والأكثر كآبة و وحشية فهو ذاك الذي يصور الكهف المملوء بالعظام البشرية في الاسكوريال... وقد أضحى نصباً تذكارياً للشهداء « حيث الصليب يعلو فوق مليون من الأموات وفوق ذكريات مظلمة لا حصر لها ... ».
تلك هي الصور التي حركها مقتل لوركا، في مخيلة" بابلو نيرودا " فكانت، وكان استخدامها في مجموعته علامة أولى وأساسية على اكتسابه أقصى درجات الوعي السياسي. وكانت النتيجة أن تنبهت الحكومة الشيلية التي كان نيرودا يمثلها في اسبانيا، إلى نشاطه السياسي في الدفاع عن الجمهوريين فقررت إبعاده من منصبه الديبلوماسي الذي كان يسهل له التحرك بحصانته. وهكذا « ما ان طبع ديواني وجُلّد حتى كانت هزيمة الجمهوريين بدأت تتسارع في وتيرتها. وامتلأت الدروب التي تؤدي إلى خارج اسبانيا بمئات الألوف من الهاربين ومع هذه الحشود، كما يخبرنا نيرودا نفسه، كان الجنود الذين نجوا من فرقة الجبهة الشرقية يمضون مهزومين. وكان من بينهم مانويل آلتولاغيرا، وفي صحبته الجنود الذين صنعوا الورق في المطحنة ونضّدوا حروف اسبانيا في القلب » وطبعوه. لقد كان كتابي هذا مفخرة لأولئك الرجال الذين طبعوا الشعر في تحد عجيب للموت. ولقد عرفت أن كثراً منهم آثروا شحن أكياسهم بالنسخ المطبوعة من الديوان، على شحنها بأغذيتهم وملابسهم. وهكذا حملوا الأكياس على أكتافهم وشرعوا في مسيرتهم الطويلة باتجاه فرنسا...».
كتب نيرودا طوال حياته، مئات القصائد وأصدر الكثير من المجموعات. ومن بين هذه المجموعات ما نال شهرة كبيرة، فنية وسياسية في آن. أما هو فظل يحتفظ في أعماقه بمكانة أساسية ووجدانية لتلك القصائد التي كتبت تحت وطأة الأحداث، وانطلاقاً من مشاعر نادرة .. وهو لم يعتبر أبداً أنه بكتابته قصائد « اسبانيا في القلب »، وبإعادة إصدار المجموعة في باريس، انتهى واجبه تجاه اسبانيا، بل ها هو ينصرف في العاصمة الفرنسية، واثر اتصالات ملحة مع حكومته، إلى تسيير انتقال المناضلين الاسبان اللاجئين، إلى الكثير من دول أميركا اللاتينية، وخصوصاً إلى المكسيك، التي سرعان ما عاد إليها قنصلاً، قبل أن ينتقل إلى القنصلية الشيلية في كوبا، ثم يعود إلى الشيلي لينتخب سيناتوراً على لائحة حزبها الشيوعي وقد أحاطه المجد ككاتب وشاعر ومناضل.
وبابلو نيرودا ( 1904 – 1973 ) شاعر تشيلي الأكبر، استعار اسمه من اسم شاعر تشيلي كبير، ابتداء من العام ( 1946 )، أما اسمه الحقيقي فهو : " ريكارد اليستير نفتالي رييس ". وهو ولد في الشيلي لأب يعمل في القطارات. ولقد بدأ كتابة الشعر باكراً متأثراً بعدد من كبار شعراء بلاده، وبعد دراسة جامعية التحق بالسلك الديبلوماسي ما أتاح له التنقل بين البلدان والقارات. وخلال تجواله ارتبط بصداقات مع كبار الشعراء التقدميين، لا سيما في اسبانيا وفرنسا. وهو مات بعد فترة يسيرة من مقتل صديقه رئيس الشيلي " سيلفادور اللندي ". ومن أبرز مجموعاته :
« أحجار السماء » و « الإقامة على الأرض » و « ذكريات الجزيرة الخضراء ».
... إبراهيم العريس ...
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء