أميّة الأطفال اغتيال للمستقبل
Last updated 15/ 09 / 2020 22
إيمان أحمد ونوس:
منذ فجر العرب الذين يعتزون بأنهم أصحاب أوّل أبجدية في التاريخ (أوغاريت)، ورغم التراث الأدبي والعلمي الذي حفلت به الحضارة العربية، كانت الأميّة الأبجدية وما زالت سائدة في حياة المجتمعات العربية لأسباب ذاتية وموضوعية يعرفها ويُدركها الجميع، ساهمت الخلافة العثمانية بجزء ليس بالقليل في ترسيخ الأميّة وتفشّيها في تلك المجتمعات.
معلومٌ تماماً أن الأميّة تعني في مضمونها وظاهرها الجهل والتخلّف عن مواكبة العلوم وتطورها المستمر، وأنها في عصر العلوم والتطور التقني الحديث، باتت تتخذ أشكالاً عديدة مثل الأميّة التقنيّة، والأميّة المعرفيّة، والأميّة الوظيفيّة، والأميّة الثقافيّة، والأميّة الحقوقيّة وغيرها، إلاّ أن الأميّة الأبجدية هي التي تقودنا إلى جميع تلك الأميّات.
وعليه فإن السعي باتجاه تقليص الأميّة ومحوها في المجتمعات البشرية لاسيما المتخلّفة منها كانت الأمم المتحدة قد اعتبرته مسألة تتعلّق بالكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان، لذا فقد حدّدت منظمة اليونسكو للثقافة والتربية والعلوم يوم 8 أيلول من كل عام يوماً عالمياً يتمُّ فيه تكثيف الجهود المبذولة نحو الوصول إلى مجتمعات أكثر إلماماً بمهارات القراءة والكتابة، وكان الثامن من أيلول عام 1967 الاحتفال السنوي الأول للقضاء على الأميّة. لكن المنظمة ذاتها تجد اليوم ورغم ما أُحرز من تقدّم، أن تحديّات محو الأميّة لا تزال ماثلة في غالبية المجتمعات بالتزامن مع زيادة سريعة في الطلب على المهارات اللازمة لسوق العمل. كما تعتبر اليونسكو أن موضوع محو الأميّة واحد من العناصر الأساسيّة لأهداف التنمية المُستدامة التابعة لخطّة الأمم المتّحدة 2030 للتنميّة المستدامة، إذ تهدف هذه الخطة إلى تعزيز فرص الحصول على التعليم، والتعلّم بشكل جيد طوال الحياة، وضمان حصول فئة الشباب على مهارات القراءة والكتابة والحساب. لأنه وبحسب احصائيات المنظمة فإن 773 مليون شاب وبالغ يفتقرون إلى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة، وأن ما يقرب من 617 مليون طفل ومراهق لا يمتلكون الحدّ الأدنى من مستويات القراءة والكتابة والحساب.
وإذا ما تحدثنا عن الواقع السوري في هذا المجال نجد أن مسألة التعليم ومحو الأميّة قد نالت قسطاً وافراً من اهتمام الحكومات، فقد ساد التعليم المجاني وانتشرت المدارس في كل المدن والقرى والبلدات، وأنشئت مدارس متنقّلة تُرافق البدو ومربي الأغنام في ترحالهم الدائم من أجل عدم انقطاع أبنائهم عن التعليم، وكانت هذه خطوة جدُّ إيجابية ساهمت إلى حدّ معقول في القضاء على التسرّب وأميّة الأطفال، لاسيما في ظلّ قانون التسرّب المدرسي الذي يُعاقب أولياء الأمور الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس، بالحبس وبغرامات مالية مثلما يُعاقب مديرو المدارس الذين يتسترون على المتسرّبين ولا يُعلمون الوزارة بنسبهم وأسباب تسرّبهم. كما عملت وزارتا الشؤون الاجتماعية والثقافة، بالتعاون مع المنظمات الشعبية والأحزاب السياسية، على وضع الخطط والبرامج للقضاء على أميّة الكبار من خلال الدورات الكثيرة والمُكثّفة التي كانت تُقام في كل منطقة وحي وتجمّع سكاني، وبالفعل تقلّصت نسب الأميّة إلى نحو 5% وكانت محافظات كطرطوس والقنيطرة والسويداء قد أعلنت خلوّها من الأمية عام 2011 قبل اندلاع الحرب الحالية التي كان من أشنع نتائجها تدمير المدارس بشكل كامل في بعض المناطق، إضافة إلى خروج العديد من تلك المدارس عن الخدمة بسبب التخريب الذي طال أبنيتها ومحتوياتها كافّة، وعليه فقد خرج آلاف الأطفال من التعليم بسبب التهجير والنزوح والتشرّد في مختلف المناطق. والجدير بالذكر هنا أن آلاف الأطفال السوريين الذين ولدوا خلال سنوات الحرب، لم يتمكّنوا من الدخول إلى المدارس، وبالتالي باتوا بشكل أو بآخر في عداد الأميين أو المتسرّبين. وكانت منظمة الطفولة العالمية (يونيسيف) قد أكّدت في آخر تقرير لها صدر في حزيران الماضي، أن نحو مليونين و100 ألف طفل يعيشون خارج مقاعد الدراسة في سورية، كما لوحظ ارتفاع كبير في نسب التسرّب من المدارس وصل إلى أكثر من 40% حسب مسؤول التعليم الأساسي في وزارة التربية التي حاولت تقديم كل التسهيلات بالتعاون والتنسيق مع اليونسيف من أجل احتواء أولئك الأطفال المنقطعين والمتسربين وفق خطط ممنهجة ومدروسة كخطة (عامين بعام) أو تعليم الفئة (ب) غير أن الواقع الحيّ والحقيقي الذي نلمسه اليوم حافل بالأطفال المتسوّلين والمُشرّدين أو الذين يعملون في مهن لا تتناسب وقدراتهم الجسدية والصحية والنفسية، وكل هذا على مرأى ومسمع المعنيين بالأمر في وزارة التربية ومعها الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي أخذت على عاتقها وضع قانون خاص الأطفال يشمل بالتأكيد النواحي التعليمية واكتساب المهارات عبر طرائق التعليم والتربية السليمة، لكن للأسف بقي وسيبقى كل هذا مجرد تنظير وإعلان إعلامي لا يمكنه الارتقاء بواقع الطفولة السورية التي ترتع في مستنقعات الأميّة ممّا سيقودها ولا شك إلى الغرق طويلاً في أتون الجهل ما سيتسبّب في تخلّفهم وتمترس الفقر في حياتهم نتيجة هجرهم لمدارسهم وتسوّلهم وتشرّدهم أو التحاقهم بالعمل باكراً بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية لأسرهم.
إن الخطر المُحدق بمستقبل سورية يكمن في أن أولئك الأطفال هم رجال المستقبل الذين يتطلّب منهم النهوض بالبلاد التي دمّرتها ومزّقتها الحرب، فكيف سيكون هذا المستقبل وأطفالنا غارقون في مجاهل التسرّب والأميّة؟!
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء