الروح الجماعية
...................................
في زمن الفقر والتعب والانزياح عن
المثل والمناقبية ليس من السهل إيجاد الروح الجماعية، أنه اشبه بالبحث عن الكمأة
في لجّة الليل؛ حيث تصبح النفس البشرية تواقة لذاتها، ويعود الإنسان إلى مرتعه
الأول وهو المحافظة على وجوده بيولوجيا قبل أي اعتبار آخر.
وفي الغرب الأمريكي والاوروبي وغيرهم؛
حينما يتناولوننا بالدراسة كأقل من فئران تجارب -فثم من يدافع عن حقوق الحيوان-
ينقبون ويحللون في الطبقات الذاتية للإنسان الفرد وجسورها مع المجتمع المحيط به،
يحاولون سبر متى يصل الإنسان أولا -ومن ثم المجتمع بطبيعة الحال- إلى النقطة التي
ينعدم فيه إحساسه بالمسؤولية الجماعية "اي شعوره بالمسؤولية تجاه المجتمع
الذي ينتمي إليه" فتنحصر أهدافه في المحافظة على حياته وحياة من يعيل من أمن
وغذاء وكساء؛ ضاربا بعرض الحائط كل ما عرفه ونشأ عليه من قيم ومثل وأخلاق وروح
جماعية ومسؤولية مجتمعة. في تلك النقطة العمياء لا يعد الإنسان إنسانا بل كائنا
بشريا يسعى للبقاء تمام كضواري البراري والطيور والزواحف.
ما الذي يوصل الإنسان إلى تلك النقطة
القاسية الكاسرة والمحطمة لكل شيء؛ هم يدركون بدراساتهم الشيطانية -التي ابدا لم
تحفل بإنساننا ولا يهمها رمق أطفالنا- أن فقدان الأمن والجوع والفقر الشديد وغياب
اي سند للفرد والأسرة وانعدام الترفيه والمواكبة؛ هي من أولى الأسباب الضاربة
لكيان الإنسان المعنوي والمادي؛ والأخطر من كل هذا أن تنتشر معادلة معيبة يمكن أن
نسميها بالمدحلة الكبيرة التي تحطم كل شي أمامها وهي معادلة (أن يتخلى الجميع عن
الجميع) وان يشعر الإنسان نفسه غريبا بين أهله ووطنه وأبناء جلدته.
في تلك اللحظة العاتية تخرج الدراسات
باستنتاجات مفادها أن الإنسان سيعود إلى الوراء عشرات بل مئات السنين سيستنجد على
الفور بالقبيلة أو الطائفة أو العائلة الكبيرة؛ سيخضع مهما كثرت معارفه وارتقت
شهاداته إلى شيخ القبيلة أو زعيم الطائفة أو رأس العائلة؛ لا غرابة عندها أن تنتشر
الروح الطائفية والقبلية والعائلية كالنار في الهشيم.
هنا يتحول رؤوس هذه الكيانات الصغرى
إلى حيتان تتفنن في التقلب بين الولاءات والمواقف تبعا للمصالح الشخصية على الأرجح
. ويأتي هذا الغرب "الباحث والدارس" ليرمي شباكه وسمومه دافعا الحيتان
إلى الإرتماء في شباكه، أو إلى القيام بعملية انتحار جماعي.
والآن ماذا لو لم يكن الإنسان ينتمي
إلى قبيلة أو طائفة، كحال الكثيرين من أبناء مجتمعنا، ما الذي سيحدث؟ ببساطة
سيتشري النفاق والمحسوبيات والولاءات المصلحية بشكل غير مسبوق؛ وفي الأماكن
الخارجة عن سيطرة الحكومة ستنتشر العصابات والمافيات الخارجة عن القانون بشكل
سرطاني متنافس.
ولكن كيف يمكن مقاومة كل هذا؟
فقط الروح الجماعية وحدها هي القادرة
على رتق ما انفتق بمعطف مجتمعنا، والقادرة ايضا على الوقاية من المخططات القادمة
المبنية على نتائج الدراسات الجهنمية.
الروح الجماعية القائمة على مراقبة
الذات تجاه الآخر الأخ أو القريب أو الجار أو الصديق أو الزميل في العمل.
بداية يجب كف الأذى أو الاستغلال أو
التفكير المصلحي؛ انطلاقا من قواعد الإيمان والدين أو الفكر المجتمعي. ومن ثم
الانتقال إلى خطوات بناءة أخرى هي الدعم المعنوي والمادي إن امكن.
إن التعاطف مع الآخرين بالعمق وبدون
تزييف أمر بالغ الأهمية في إعادة بناء الروح الجماعية؛ فهو شعور من القلب إلى
القلب ولهذا يبلسم جراح المتعبين، فما بالك أن ترافق ذلك بتطوع كعرض المساعدة أو
الخدمات في المتاح والممكن.
ومن الطرف الآخر على المصاب إلا يستغل
مقدمي المساعدة ان كان لا يعوذها حقا؛ وعليه بالآن نفسه الا يرفضها ترفعا وهو
بحاجة إليها.
إن هذه التفاصيل التي قد تبدو بسيطة
وتافهة لكنها في حقيقة الأمر مثل كريات الحمراء في البدن تحمل له الأوكسجين
والحياة، فكل منا كرية حمراء يمكن أن يحمل شيئا من الحياة للآخر.
والروح الجماعية أيضا تتعلق أيضا
بالمسائل المتوسطة والكبرى؛ على المستوى البلدي المحلي؛ وكذلك على المستوى الوطني
العام. إذ أن توحد الجمهور تجاه القضايا الخدمية يقرر برنامج العمل البلدي ويرفع
من جدواه، في حين أن التنافر والتنافس، كل يشد الغطاء صوبه، يمزق الجهود ويعطل
الأهداف.
أما على المستوى الوطني فإن الروح
الجماعية تقوم عمل الحكومة وتصوبه؛ كونها تحدد الأهداف وتضغط في تحديد الأولويات.
إن الروح الجماعية بالبحث عن التقاطعات
العملية التي تهم حياة الناس، كل الناس، خلافا للعقائد والايديولوجيات التي تفرق
الناس، أن هذه الروح الموحدة للشعب والمجتمع تمثل أساس النهوض الحضاري لأي أمة على
وجه البسيطة؛ وبالتالي فكل دراساتهم ونظرياتهم التآمرية ستصبح بخبر كان، حالما
نرفع هاماتنا بوجه بعضنا البعض، ونتقبل بعضنا بصوابنا وأخطاءنا بحثا عما يجمعنا
ونتقاطع به، وهو جد كثير. عندها فقط ندخل في الحلقة الصحيحة حيث الجميع بخدمة
الجميع.
ع . ح . الحموي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء