الرثاء في الشعر الجاهلي
في بنية الوعي الإنساني يتواجد عنصر التعاطف مع الآخر عبر تحسس ألمْ هذا الآخر في داخل الأنا , أي من خلال قدرة الأنا على افتراض ذاتها خاضعة للألم نفسه , أو عرضة للمصير نفسه , وفي باب التحسس يدخل شعر الرثاء , وذلك بوصفه موقفاً ذاتياً من ظاهرة هي موضوعية وذاتية في الوقت عينه , إنه ولوج الآخر وحالاته عبر الوجدان الذي نملك أن نتصوره كثقب في الطبيعة الإنسانية يسمح للإنساني أن يعبر إلى الداخل ومن الداخل في آنٍ معاً . فموت أحد الناس موضوع خارجي مستقل عن الأنا , وذلك بما هو واقعة موضوعية , ولكنه ,مع ذلك, يقبل الانسحاب إلى الداخل نظراً لاستطاعة الذات على أن تتصور موتها عبر موت الآخر , ولأن في طبيعتها يظهر ارتباط الإنسان بالإنسانية ويذوب العالم الإنساني في الخاص الفردي .
بيد أننا ينبغي ألا نمحور أبحاثنا في الرثاء الجاهلي حول مسالة التنقيب عما ينطوي عليه من مواقف وجودية , وذلك لضحالة هذه القضايا في المراثي الجاهلية , وعلينا أن ننتبه قبل كل شيء إلى أنّ أكثرية المشتغلين بالرثاء كانوا من النسوة لا الرجال . فلعل مما هو فصيح الدلالة ( بخصوص الوظيفة الاجتماعية للرثاء ) أننا نملك مراثياً فرضتها أكثر من سبعين امرأة , اشتهرن بأنهنّ شواعر لاتنسب إليهن في الغالب الأعم إلا قصائد رثائية .
الخنســـــــــــاء :
لاريب في أن الخنساء قد كانت طاقة تحريضية جبارة , ولاأدل على صدق ذلك من قولها :
شدّوا المآزر حتي يُستقاد لكـــــــــم ......وشمّروا , إنها أيام تشــــــــــمارِ
لانوم حتى تقودوا الخيل عابســـــة ً ..... ينبذنَ طرحاً بمهراتٍ وأمهــــار
أو تغسلوا عنكم ُ عاراً تجللكــــــــم .....غسلَ العوارك حيضاً بعد إطهِــار
والسؤال الذي يُطرح : " لماذا ركزت الخنساء على أخيها صخردون أبيها ؟ والجواب :
أن ّ موت الأب أفضى إلى إبداله بحكم الحاجة إلى أب يعوض عن الرجل الراحل , وهذا يعني أن الخنساء قد حققت الإبدال قبل مقتل صخر .
أصبح صخر حامي العشيرة وسيدها منذ حداثته , وهذا يعني أنه بات يمارس كافة وظائف وسلطات الأب في المجتمع فكان شعرها في رثاء أبيها أقل عمقاً من شعرها في رثاء معاوية , وشعرها في رثاء معاوية أقل جودة من شعرها في رثاء صخر .
وإنّ صخراً لحامينا وسيّدنـــــــا .....وإن ّ صخراً إذا نشتو لنحــّــــــارُ
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة بــــــــه .....كأنه علمٌ في رأسه نـــــــــــــــــارُ
كان مقتل صخر أعظم وقعاً على نفسها لأن صخراً هو آخر معاقلها , فانفجرت انفجاراً ينمّ عن اغترابها الكلي نتيجة لتحققها من أنها غدت عديمة الانتماء الأبوي على الإطلاق وقد ثبتت دوافعها على صخر الذي يجعل مقتله أكثر فاجعة كان من جرائها افتقاد أحد الأخوة .
وبذلك يكون شعر الخنساء أكثر من رثاء أخ , إنه محاولة لبلورة وتجسيم المثل العليا للفروسية .
ظهير الشعراني
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء