جيلنا الجديد والاستنهاض الاجتماعي (1)
.......................................................................................
ليس كل أفراد المجتمع من المناضلين الاجتماعيين او الوطنيين، فكثير منا تأكله الحياة سعيا وراء لقمة العيش، أو تأمين المستقبل الشخصي، أو سعيا وراء هوى لا يقدم ولا يؤخر على مستوى المجتمع،
وبعض يأكل الحياة إن صح التعبير، فيستغرق عمره في الجشع والربح المجنون وبناء ثروات من دم الناس وقهرهم.
آخرون كرسوا أنفسهم ليكونوا ذئابا فنجحوا لكنهم اخفقوا في أن ينتموا إلى ملكوت الله-الإنسان.
لسنا جميعا أكفاء لنكون عظماء غير معلنين لبناء الحياة فأكثرنا ينهشها ولا يبنيها، أكثرنا ينتهز الفرصة ليثبت جدارته في الانتهاز.
ولكن في بعض الأحيان علينا أن نتعود أن نخسر قليلا، فربحنا المتواصل قد يعني الدمار لما حولنا، فإذا ما أفحمنا أبنائنا في كل شيء سنحظى أخيرا بأبناء لا يفكرون عديمو الشخصية.
اذا لم يترك الزوج لزوجته قسطا من السيادة فستشعر بالامتهان وهكذا دواليك.
بعض الأشخاص يشعرون بشعور طيب تجاه المجتمع، هذا ليس قليل ، كما أنه يبعث على الأمل، يحيدون شعورهم بالسخط تجاه المظاهر الانحدارية التي ألمت بمجتمعنا، فهم يدركون بعين البصيرة أن وراء الغلاف الموبوء الذي يطوقنا شعاع محاصر من الحب، رغبة دفينة بالخلاص، إرادة تحد لإثبات الإنسانية.
كثير من شبابنا اليوم يبدون للعيان غير ذوي استنهاض، وخالين من المعرفة والرؤية. وإن صدق هذا لدى البعض فلا يصدق لدى جيل بكامله، بالجيل القادم ينطوي على الأحلام السرية التي لا نعرفها، ولا تخطر على بالنا، ينطوي على إرادة عنيدة كهذه الأرض التي انبتتهم.
لقد وجدوا لزمان غير زماننا، وولدوا لأقدار غير اقدارنا، فلا تغرنك مظاهر الشغب والاستفزاز والعبث، فتحت هذه الفوضى التي لا تعجبنا هناك عقول تتأمل الحياة وتستنتج كيف تتفادى الضربات وتحول الهزائم إلى استنهاض.
الكثير من شبابنا اليوم لا يفهم النضال الاجتماعي كما نفهمه نحن الأمس، الموضوع عندهم تجاوز الشعارات، ورومانسية الثورة، وصور غيفارا وصوت مارسيل وقصائد محمود درويش.
الكثير منهم أصبح يهتم أكثر بالتفاصيل الصغيرة التي لم تكن تعجبنا -فنحن جيل أبناء القضايا الكبيرة لكن بدون إنتاج- الكثير منهم وجد في بناء دائرته الصغرى طريق لبناء الدائرة الاكبر فالأكبر وصولا إلى الوطن؛ الكثير منهم يرى في الاهتمام بإبن الجيران المتعب او المريض طريقا للوصول إلى ما هو أعلى، فالطريق إلى بناء عالم إنساني كبير يبدأ ببناء قلوبنا الصغيرة.
إذن الجيل وإن كان يعاني (ونعاني معه) من تخبطات ومناقصات إلا أن قسم ليس بالقليل منه يكتنز الخير، كل الخير والثقة بالقادم.
هناك نمط حديث من الفعالية الاجتماعية بدأ الجيل الجديد يروج لها يمكن أن نسميها بظاهرة الاستنهاض الاجتماعي التي تقوم على النظرة الإنسانية بالعموم، وترجيح الحداثة والدخول بالتفاصيل، واعتماد التفرد الشخصي كميزة مستدامة، والاعتقاد بأن المبادرات الصغيرة المحلية يمكن بالتراكم أن تحدث فرقا.
وهم محقون في هذا فالفاشل على الصعيد الشخصي والأسرى لا يمكن الوثوق بأنه سيكون ناجحا على مستوى المجتمع، مع استثناءات نادرة لا يمكن اعتمادها كقاعدة.
هذا الاستنهاض هو استمرار (ولو بشكل جزئي) لنشاط المجتمع المدني والتطوعي وفعالياته.
يحاول الجيل رغم المصاعب الجمة إثبات وجوده واثبات نظرته المختلفة؛ ينطلق متحررا من كثير من الأغلال الفكرية والعقائدية والحزبية -السلبية منها- ليرسم رؤية لم تتوضح ملامحها بعد، يتحرك غير آبه بمشهد القتل من حوله مثبتا أنه قوي كقوة الحياة نفسها.
هنا يجب أن نغفر ونتفهم بعض ظواهر الشطط والتحدي الخارجة عن اللياقة والمألوف؛ فكثير مما نراه هو صرخات انعتاق في وجه الموت المحيط، وهو غضب دفين على كل ما وصلنا إليه.
يجب أن نستوعب كل هذا وأن نساعدهم في تجاوز التناقض، وبالوقت نفسه عليهم استيعاب إخلاصنا للماضي وانتماءنا للأقبية الفكرية التي لم تستطع تحقيق انطلاقة خلاص بسبب ظروف كلنا يعرفها.
الاستنهاض الاجتماعي قد يكتب له النجاح والانتشار فيكون بديلا رشيقا للمتقاعسين عن النضال الاجتماعي والنضال الوطني، فهو يقوم على التراكمات وعلى العمل التطوعي والمبادرات الفردية والجماعية وعلى التنوع والاهتمام بكل ما عجزت الحكومة عن الاهتمام به، من الرعاية النفسية للطفولة، إلى التثقيف والموسيقى، إلى الرياضة والمسيرات الجماعية، الى الاهتمام بالمسنين والأيتام والمكفوفين، إلى دورات إعادة التأهيل وتمكين الاحتراف، وتنظيف الطرقات والأحياء والنفوس أيضا.
تفجر الجيل بقوة استنتاجية مدنية صارخة في مواجهة التهميش والتزييف والتفقير والشعارات والموت نفسه، جيل يحمل على جانبيه إما صعودا خارقا أو انهيارا تاما.
البوادر قد تنبئ بالخير، لكنها بالوقت نفسه تحمل مشكلاتها وعوامل انهيارها التي يمكن أن تمتص جهدها وتفرغ شغفها ومحتواها؛ ولهذا وجب علينا -نحن الجيل الجسر- أن نقف إلى جانبها فإن كنا قصرنا بالأمس علينا ألا نقصر اليوم.
ليس المطلوب أن نأخذ بيدهم فهم لا ينتظروننا-وقد يأخذوا بيدنا نحن- بل المطلوب أن نقف إلى جانبهم معنويا وعمليا، المطلوب أن نكف عن بث الطاقة السلبية فيهم، فإذا كنا لا نعمل فلندعهم يعملون، ولندعهم يجربوا دون أن نجاملهم في اخطاءهم او في اي انحرافات-خصوصا الاخلاقية منها- لا قدر الله.
إن ردة فعلنا تجاه تصرف أبناءنا قد تحدد اتجاههم، فكلما بالغنا في ردة الفعل تجاه الأخطاء دفعناهم أكثر بالاتجاه الذي لا نريد، كما أنه كلما تساهلنا وابتسمنا أكثر للانحرافات الشبابية بدعوى طيش الشباب والفتوة سنتوقع أخبارا أكثر عن تراجع قيمي ودراسي وانخفاض في التحصيل العملي على كل الأصعدة.
كما أن توحد نظرتنا إلى الجيل تساهم في توحيد بنيانه ورص صفوفه إلى بعضه البعض، وتخبطنا في النظرة إلى الجيل وإلى المستقبل تشوش على أدائهم وعلى إرادتهم في التوحد والنهوض.
وقد قيل نعطف على الصغير ونحترم الكبير، لكن اليوم يمكن القول نحترم الكبير والصغير معا، فحتى لا نخوض في نتائج علم التربية وعلم نفس الطفل والمراهقين إن افضل واضمن وسيلة للوصول إلى فرد سوي هو الاحترام، واستيعاب الأخطاء قدر الإمكان مع المتابعة، يأتي التعليم ثانيا، لأن الشخصية السوية والناهضة قادرة على التحصيل العلمي بالشكل الاكبر، وهي غالبا ما تكون إيجابية بالنسبة للمحيط والمجتمع، ولهذا يعول عليها في القيام بعملية الاستنهاض الاجتماعي، واحتواء السقطات الصغرى والكبرى التي تحدر إليها المجتمع، فهي شخصية سوية قادرة على فهم ما يدور بعقلية علمية واكتشاف الثغرات والنفاذ من خلالها لوضع حلول مبتكرة بأقل الكلف، أو الدفع لتجاوز المأزق بالتحلي بالوعي والصبر. هؤلاء هم الذين يعول عليهم في بناء المستقبل، وحنفه عن المسار القاتم المرسوم.
علي حسين الحموي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء