دفاعاً عن اللغة العربية
.......................................................................................
نشر أحدهم مقالا عن اللغة العربية , لم يترك نقيصة إلا وألصقها بهذه اللغة , فهي على حد زعمه (( تعاني من الاضمحلال والاندثار, واحتواء القرآن الكريم لبعض المفردات الأعجمية دليل على ضعف الثقافة الحضارية في بيئة شبه الجزيرة العربية , وهي لغة غير مفهومة بدليل جنوح طلابنا إلى العامية , وهي لغة ليست لغة بحث علمي أما اللغة العبرية فهي لغة رائدة في البحث العلمي , ولغة القرآن كأحد حوامل هذه اللغة هي لغة عقيمة , يرددها أصحابها دون فهم كالبغبغاوات )) . وغير ذلك من الانتقادات اللاذعة للغة العربية حينا وللنص القرآني حينا آخر .
بداية , أنا أدرك تماما أن أمتنا العربية تمر الآن بحالة من الضعف والتراجع يصل إلى حد الانهيار , وهذا مما أتاح لأعدائها والمتكالبين عليها , على كثرتهم , لأن يهاجموها وينالوا منها من كل حدب وصوب , ولكن لم أكن لأتصور أنه يمكن أن يتطاولوا عليها من مواطن الجمال فيها , وهذا التطاول على لغتنا من قبل البعض ذكرني بكلمة لمارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تصف فيها معارضيها (( والله لو رأوني أمشي على سطح الماء , لقالوا هي تمشي على سطح الماء ليس إعجازا ولكنها لأنها لا تجيد السباحة )) .
وبعيدا عن لغة الشتائم والمهاترات الفيسبوكية , اللغة , أية لغة , هي وعاء الأمة التي تنطق فيها , وهي رمز وحدتها ومكون أساسي من مكونات وجودها , وهي تقوى وتنتشر بقوة الأمة التي تتكلم هذه اللغة , ويتراجع استخدام هذه اللغة بتراجع وتخلف الناطقين فيها , والأمم الحية تحافظ على لغتها لأنها جزء من مكوناتها , والأكثر من هذا إن أي مجموعة بشرية تحاول أن تعطي لنفسها صفة الأمة , تحيي ولو من العدم لغة تلتف حولها لتكون وعاء لها وللناطقين فيها , يميزهم عن الآخرين كي لا يذوبوا في الآخرين ويكون الاندثار مصير أمتهم , وليس أدل على ذلك من الأكراد الذين بقيت لغتهم , لغة غير مكتوبة ولا يوجد لها أبجدية تكتب فيها منذ مولد أول كردي على الأرض إلى سنوات قليلة مضت حين اختاروا الحرف اللاتيني لكتابة لغتهم , وقد حافظ الأكراد على لغتهم خلال هذه السنين الطويلة بالسماع والمشافهة ليس إلا , كي لا يذوبوا في غيرهم من الأمم التي يتوزعون فيما بينها , أما اللغة العبرية التي اعتبرها الكاتب رائدة في البحث العلمي , رغم أنها كانت ولسنوات قليلة لغة شبه منقرضة , لا يتكلم فيها أحد , لأن اليهود الذين كانوا موزعين في أصقاع المعمورة كان كل منهم يتكلم ويتعلم بلغة الأمة التي ولد فيها وعاش فيها , وحين أراد العالم أن يتخلص منهم ومن شرورهم فيما سمي في حينها (( بالمشكلة اليهودية )), وبعد أن أعدموا جزءا منهم بالأفران (الهولوكوست ), جمعوهم من كل أصقاع الدنيا وزرعوهم في فلسطين بوعد مزعوم , على حساب شعب عربي , يتكلم العربية , ويعيش في هذه الأرض قبل أن يولد اليهود والدين اليهودي بآلاف السنين , وهم الآن يحاولون أن ينسوا لغاتهم التي تعلموها وعاشوا عليها في الأوطان التي كانوا موزعين فيها , ويعملون على إحياء لغتهم العبرية من جديد , لتكون وعاء لهم يجمعهم , ويميزهم عن الآخرين , حتى اليابانيين ولأنهم يحترمون أنفسهم ويعتزون بالانتماء لأمتهم , فهم يتعلمون بلغتهم ويترجمون كل ما ينتج من علم وثقافة ومعرفة في كافة لغات العالم إلى لغتهم حتى لا يضطروا إلى التخلي عن لغتهم وتعلم لغات الآخرين كي يكسبوا ما ينتجه العالم من علم وثقافة ومعرفة , وهم يدركون تماما أن الحفاظ على لغتهم يعني الحفاظ على ذاتهم وعلى تميزهم, هذا رغم أن اللغة اليابانية تعتبر من أصعب لغات العالم , لفظا وكتابة , لأنها تتألف من دمج أكثر من لغة منقرضة مع بعض , وكل جملة فيها تنطق بلغة مختلفة عن الأخرى .
أما اللغة العربية , فهي من أعرق وأقدم لغات العالم على الأرض قاطبة , ومن أكثرها انتشارا أيضا , فعمرها يتجاوز الآلاف من السنين , وهي الرابعة من حيث عدد الناطقين بها في العالم في وقتنا الحاضر , وهي من أجمل لغات العالم وأكثرها قدرة على التعبير لمن يعرف مفرداتها ويجيد علومها , والأهم من هذا وذاك هي ليست لغة جامدة كما يصفها البعض لكنها من أكثر لغات العالم قدرة على التطور عبر الزمان وعبر المكان أيضا , وهذا كلام ليس للإنشاء لكنه يرصد صلب الحقيقة , وما على المشككين إلا أن يرصدوا الفرق بين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة , ليعرفوا كم تطورت هذه اللغة بين تلك المرحلتين , وما عليهم إلا أن يقارنوا بين العربية التي صيغ فيها الشعر الجاهلي ومعلقاته واللغة العربية التي كتب فيها الشعر والأدب والثقافة والفقه والفلسفة والعلم في الحقبة الأموية والعباسية , وهي لغة علم وبحث علمي وقد كانت هذه اللغة هي الجسر الذي عبرت عليه ومن خلاله علوم الأقدمين , من طب وفلك وصيدلة وفلسفة وهندسة , إلى الحضارة المعاصرة بصيغتها الأوروبية الحديثة . وسوف لن أتطرق إلى قدرة هذه اللغة على صياغة وكتابة واستيعاب كافة صنوف العلم والمعرفة في العصر الراهن , كي لا يطول بنا الحديث.
وهي ليست لغة جامدة كما يدعي البعض , لكنها كغيرها من اللغات الحية في العالم , تتطور عبر الزمان والمكان , تؤثر بلغات الأمم والحضارات الأخرى وتتأثر فيها , وحين استعملت بعض المفردات من لغات الآخرين , ليس لضعف في ثقافتنا الحضارية كما يدعي كاتب المقال , لكنها مقتضيات التفاعل الحضاري الخلاق , فعلى هذه الأرض ولدت أقدم الحضارات , والدليل على حيوية هذه اللغة وقدرتها على التأثير ما عليكم إلا أن تسألوا اللغة الفارسية التي مازالت تكتب بأحرف عربية واللغة التركية التي كانت تكتب بأحرف عربية إلى عهد قريب , واللغة الإنكليزية لغة العلم الحديث والأكثر انتشارا في العالم , كم تحوي هذه اللغات في طياتها من المفردات والكلمات ذوات الأصول العربية .
و لجمال هذه اللغة وقدرتها الفائقة على التعبير , كتب فيها العديد من أبناء الأمم والحضارات الأخرى ممن اعتنقوا الإسلام دينا وممن بقوا على دياناتهم التي أخذوها عن آبائهم , فهم جميعا وعلى اختلاف دياناتهم ومللهم ونحلهم كتبوا علومهم وثقافاتهم وطبهم وفلسفاتهم بهذه اللغة , وللتأكد ما عليكم إلا أن تقرؤوا ما كتبه ابن سينا والفارابي والخوارزمي وحنين ابن إسحق وغيرهم الكثيرين ممن انضووا تحت ما سمي بالحضارة العربية الإسلامية في أوج عزها , واقرؤوا شعر محمد إقبال الباكستاني , وشعر أحمد شوقي ذوي الأصول الكردية في تاريخنا المعاصر .
وأقول لكاتب النص , أن العامية التي يميل إليها بعض الطلبة وبعض المثقفين أيضا , هي ليست لغة مفصولة عن اللغة الأم , لكنها مرحلة من مراحل تطور اللغة , وهي اللغة في مراحلها البدائية أشبه ما تكون بلغة الأطفال نتعلمها بالسماع ومتحررة من القواعد والنحو والصرف , لغة مشافهة وسماع وليست لغة للكتابة والعلم والثقافة ونقل المعارف , أما الفصحى فهي اللغة بعد أن اكتمل نضجها واستكملت كافة أطرها وقواعدها .
وأقول له أيضا ,سواء انتشرت هذه اللغة إلى شعوب الأرض وأممها عن طريق النص الديني أو عن طريق ما سمي بالفتح العربي الإسلامي أو بفعل التفاعل الحضاري بين الشعوب , ورغم أن القرآن الكريم هو أقدم وثيقة مكتوبة باللغة العربية وصلت إلينا , كما يقول عميد الأدب العربي طه حسين , لكن اللغة العربية أقدم من النص الديني بعشرات القرون , والنص الديني هو جزء من اللغة وليس كل اللغة , واللغة هي أكبر وأوسع من أي نص صيغ فيها .
وأخيرا , أقول لمن لا تعجبه هذه اللغة , ولا يتمتع بجمال معانيها فما عليه إلا أن يختار لنفسه لغة أخرى ليتكلم ويكتب فيها , ولنرى كم عدد من يسمعون له ويتأثروا بفكره ؟! أما أن يدعي الانتماء لهذه الأمة , وكما يقول المثل (( يجلس في حضننا وينتف في لحيتنا )) فهذا عيب !!!!!.
وشكرا
د . عبد الكريم المويل .


خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء