الدماغ الميكانيكي
الثورة العلمية والفلسفة المادية من بحث ديالكتيك ماركس وانجلز
.......................................................................................
في إطار النزعة التجريبية الميكانيكية، حتى العمليات البيولوجية والكيميائية تجد تفسيرها في نهاية المطاف في الحركة الميكانيكية .
بدت هذه النظرة التي ترى الطبيعة باعتبارها قطعة ساعة عملاقة، متوافقة بشكل منطقي تماما مع الظروف الاقتصادية في ذلك الوقت. لقد أدت الأهمية المتزايدة للتصنيع إلى عقلنة عملية الإنتاج بأكملها وتحويلها إلى سلسلة من الحركات الميكانيكية البسيطة.
وفي كل مرحلة من مراحل تقسيم العمل هذا، تحول البشر إلى ما يشبه التروس في الآلة ؛
في نفس مرتبة الآلات المعقدة نفسها.
وفقا لهذه النظرة الميكانيكية للعالم، صارت حتى العمليات البيولوجية والكيميائية تجد تفسيرها في نهاية المطاف في الحركة الميكانيكية.
ومثلما يعمل القلب مثل مضخة ميكانيكية وتتحرك الأطراف وفقا لمبدأ الرافعة، صار يعتقد أنه حتى الحركات الكيميائية للخلية وحتى عمليات الإحساس والدماغ ناتجة عن انتقال حركات ميكانيكية مماثلة.
لا يوجد عند مثل هذه الفلسفة مساحة لنظرية متناسقة للعقل والذاتية.
فالحيوانات، وفقا لما قاله ديكارت -
وهو أحد الدعاة البارزين للنظرة الميكانيكية للعالم -
ليست سوى آلات صغيرة ذاتية الحركة (Automata) تتفاعل بشكل انعكاسي مثل آلات معقدة.
وبما أن أجسادنا وعقولنا تتحرك بدورها من خلال نفس العمليات الطبيعية مثل الحيوانات، فإن ديكارت لم يجد سوى تفسير ثنائي (Dualistic) خارق للطبيعة لظاهرة الوعي، حيث قال إن الجسم يتحرك بقوانين ميكانيكية في حين أن الوعي موجود في عالم آخر، وتم الربط بين الاثنين بما يمكن أن يكون
"قوة الهية" موجودة بشكل فريد في الدماغ البشري. ها نحن نرى مرة أخرى كيف أن المادية الميكانيكية تترك الباب مفتوحا أمام عودة المفاهيم الصوفية والمثالية.
المادية والنقد التجريبي
هذه النظرة للإنسان بكونه سلبيا تحركه الطبيعة بشكل ميكانيكي تثير أسئلة مهمة تتعلق بمصدر المعرفة البشرية ومدى صحتها.
يتفق الماديون والمثاليون على حد سواء على أن مصدر المعرفة الوحيد الذي لدينا هو حواسنا. لكن بالنسبة إلى المادي ليست أحاسيسنا أكثر من صور وانطباعات ناتجة عن عالم مادي خارجي موجود بشكل مستقل عن كياننا.
إلا أن المثالي أو السوليبسيتي سيعترض على ذلك قائلا: «إذا كان كل ما نمتلكه هو هذه الأحاسيس، فكيف يمكننا التأكد من أنها تعكس بدقة العالم من حولنا؟
ثم ليس هناك ما يؤكد لنا أن هذه "المفاهيم الحسية"
تعكس أصلا وجود عالم مادي».
على هذه الأسس، وبالانطلاق من نفس نقطة التي انطلق منها المادي الإنجليزي جون لوك
(بكون المعرفة تأتينا من الحواس فقط) بنى كل من ديفيد هيوم والأسقف بيركلي معارضتهما المادية.
بالنسبة إلى بيركلي ليست الأشياء التي نعتبرها حقيقية سوى مركبات من الأحاسيس التي يتفق أن تحدث مرتبطة والتي نضع لها علامة في أذهاننا.
إن "التفاحة" مزيج من أحاسيس الشكل المستدير واللون الأحمر والمذاق الحلو، ولا شيء أكثر من ذلك.
أما فكرة كون التفاحة موجودة باعتبارها "مادة"
فليست سوى قفزة فلسفية لا مبرر لها.
تبدو وجهة النظر هذه سخيفة بشكل كبير، لكن ومع ذلك فإن العلماء والثوريين لم يكونوا محصنين ضد إغرائها.
ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أعاد الفيزيائي إرنست ماخ إحياء الفلسفة القائلة بأن العالم ليس أكثر من "مركبات من الأحاسيس" تحت اسم
"التجريبية النقدية".
اليوم أيضا نرى نفس الاتجاه الفلسفي ينتعش تحت مختلف التسميات.
ففي نظرية "العالم المعلوماتي"
التي طرحها عدد من علماء الكمبيوتر وعلماء فيزياء الكم على سبيل المثال، تمت الاستعاضة عن "الأحاسيس
" بـ "المعلومات"، التي مركباتها تشكل واقعنا. ليست هذه الفلسفة، من جميع النواحي الأخرى، سوى إعادة صياغة للتجريبية النقدية. قد تكون اللغة قد تغيرت لكن نفس
"المعسكرين الكبيرين" في الفلسفة ما زالا قائمين.
في الفترة التي تلت هزيمة الثورة الروسية عام 1905، بدأت الأفكار الصوفية (Mystical) تنتعش في روسيا، كما يحدث في كثير من الأحيان في فترات الإحباط والإرهاق، بما في ذلك بين فئات من البلاشفة. لقد اعتبر لينين أن نضال الحزب الثوري من أجل الوضوح النظري وخاصة ما يتعلق بفلسفته الموجهة مسألة حياة أو موت، وقام بفحص دقيق لحجج
"الماخيين" الروس في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي".
أظهر لينين في كتابه أن المادية الميكانيكية وغير الديالكتيكية عاجزة أن تجيب بشكل صحيح على اعتراضات المثاليين والسوليبسيستيين.
إنها تميل إلى أن تكون بمثابة نقطة انطلاق:
إما إلى الأمام نحو المادية الديالكتيكية الحقة -وهي القفزة التي حققها ماركس من فيورباخ- أو إلى الوراء نحو معسكر المثالية.
إذ بعد كل شيء إذا ما كنا نحن وحواسنا نتعرض بشكل سلبي للقصف من الطبيعة الخارجية، فكيف لنا أن نثبت وجود الواقع أو المادة؟
أجاب لينين:
بالطبع نحن لسنا مجرد كائنات سلبية تتعرض للقصف من الطبيعة.
نحن نمتلك أداة أخرى إلى جانب التأمل: فنحن أنفسنا نتفاعل بنشاط مع العالم.
إن الحركة تتدفق في كلا الاتجاهين، فإذا استخلصنا من خلال حواسنا بأن العالم هو على هذا الشكل أو ذاك، فإننا سنؤكد صحة استنتاجاتنا أو خطأها من خلال فعلنا في العالم.
وكما أوضح ماركس في أطروحته الأولى من موضوعات حول فويرباخ:
«إن العيب الرئيسي لكل المادية الموجودة حتى الآن -
بما في ذلك مادية فيورباخ - هو أنه لا يُنظَر إلى الشيء، الواقع، الحساسية، إلا في شكل موضوع أو في شكل تأمل، لكن ليس على أنها نشاط إنساني حسي ولا على أنها ممارسة ولا بشكل ذاتي.
ومن ثم فإن الجانب العملي تطور، في تناقض مع المادية، وبشكل تجريدي على يد المثالية، التي هي، بطبيعة الحال، لا تعرف النشاط الحسي الحقيقي كما هو في الواقع».
فلسفة متحجرة
إن ما يبرز من تاريخ الثورة العلمية هو كيف أن حركة بدأت كتحد ثوري للنظام الإقطاعي القديم، صارت عقيدة متحجرة ومحافظة. وعلى حد تعبير إنجلز:
«لقد كتب كوبرنيكوس، في بداية المرحلة، رسالة تنتقد اللاهوت؛
بينما أغلق نيوتن المرحلة بافتراض أن الدافع الأول هو الإله».
يجب ألا يفاجئنا أن المدرسة الفلسفية المثالية -من خلال كانط وهيجل- كانت هي من أعادت اكتشاف الديالكتيك اليوناني القديم.
وعلى حد تعبير إنجلز:
«إن الخرق الأول في هذه النظرة المتحجرة للطبيعة لم يكن على يد عالم طبيعي، بل على يد فيلسوف. في 1755 ظهر كتاب كانط "التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماء"،
وألغيت مسألة الدفعة الأولى.
ظهرت الأرض والنظام الشمسي كله بكونها أشياء تطورت عبر الوقت.
احتوى اكتشاف كانط على نقطة الانطلاق لكل التقدم اللاحق.
فإذا كانت الأرض شيئا تطور، فإن حالتها الجيولوجية والجغرافية والمناخية الحالية، ونباتاتها وحيواناتها، يجب أن تكون أشياء قد تطورت هي أيضا».
ومنذ ذلك الحين أكد تقدم العلم في كل خطوة من خطواته إلى الأمام صحة النظرة الديالكتيكية.
لقد كانت مهمة ماركس هي وضع الديالكتيك على أساس علمي واضح، أو بعبارة أخرى: وضعه على أساس مادي.
لكن مثل هذه الفلسفة توضح على الفور التناقضات الداخلية التي تعرفها الرأسمالية كما توضح احتضارها.
لذلك فإن الدفاع عن النظرة المادية الحديثة ضد منتقديها هو دفاع عن وجهة النظر الطبقية للطبقة العاملة في كفاحها ضد البرجوازية، وفي نفس الوقت دفاع عن العلم ضد كل محاولات التراجع إلى عالم التصوف والمثالية.
من مصادر
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء