نحن لا نتـقن الانقراض بل التوق إلى المطلق
.......................................................................................
مكوك الحائك القديم يطوي الزمن ويخلف وراءه مسافات ومساحات من السجاد من دون أن يبرح مكانه أو أنامل صاحبه..!. يا لبهاء الوقت حين ينبسط عرائش من الألوان والصبر والخشوع والإغواء بالطيران فوق الريح..
.يا للحوار الأبدي مع الأعين و الأقدام..يا لصوفية الصوف.!. ما لامست قدماي سجادة شرقية إلا وأجبرتني صناعتها على حني رأسي تأملاً... واشتممت فيها رائحة الصبر والتحدي ,فالسجاد والشرقي يعلمان أنهما باقيان لذلك لا يباليان بضجيج الآلات وأزيز الطائرات ونشرات الأخبار. الغربي يسابق الزمن ولكن الشرقي يجالسه,يحاوره ويراقص عقاربه فيعيد إنتاجه لحناً ونقشاً وحياكة لأنه يؤمن بالوصل لا بالوصول ويدرك أن التوادد والتآلف مع الحياة أجمل وأنفع من التصادم معها, لعله تعلم من حيرة المعري في قوله: «عللاني فإن بيض الأماني/ فنيت والزمان ليس بفان».
الغربي يصر أن يصدر إلينا ثقافة (الفاست فود) في كل شيء, حتى في الارتخاء والتأمل والحزن والفرح أما نحن فما زال لدينا متسع من الوقت حتى للنظر في الوقت! ألم يقل ميخائيل نعيمة يوماً على لسان الشرقي غير العابئ بالحروب: سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر فإذا الليل طال والظلام انتشر من سراجي الضئيل أستمد البصر، -كل الذين استعجلوا لقوا حتفهم- هكذا سمعنا الأجداد يقولون وأعتقد شخصياً أني بت مؤمنا بهذه المقولة لا لإيمان بالعجز واستحالة اللحاق بالركب وإنما حب وتعلق بالروح الشرقية التي تنزع نحو الهدوء والسكون والطمأنينة فلماذا يريد بعض الحداثويين أن يسلبونا طريقتنا في الاستماع إلى الأغاني الطويلة؟ ألم يخلد التاريخ ويعجب الغرب بمهابهراتا الهند وشاهنامه الفرس لطولهما الممتع, أو ليست عجائب الدنيا هي تلك التي (سلطن)عليها الإنسان وأخذ راحته في إنجازها!؟
إن حال المستعجل من دون سبب يشبه حال العاطلين عن العمل من أبناء العرب في أوروبا الذين يقلدون الغربيين في طريقة شرب القهوة الإكسبرسو:الأوروبي يشربها واقفاً وبسرعة للالتحاق بعمله، أما أبناء عمومتنا فيشربونها بالإيقاع نفسه ثم يجلسون يتفرجون على بعضهم من دون (شغلة أو عملة) !... كذلك شاهدت بأم عيني راعياً في إحدى البوادي العربية يضع على أذنيه سماعات ويتمايل طرباً خلف أغنامه, دفعني فضولي لطلب الاستماع من جهازه الغريب فوجدته يستمع إلى أغنية من نوع الراب المعروف بإيقاعه السريع والتصاقه بضواحي المدن الكبرى... ما حيرني أكثر هو استخدامه لسماعات الأذنين في هذا الفضاء الرحب والجو الساكن الوديع؟! قد يتفوق الشرقي -إن ثابر واجتهد- في اختصاص غربي بحت كالتزحلق على الجليد مثلاً ولكن الأجدر به أن يلتفت إلى ما يتقبله مزاجه وتستعد له جيناته ويلاقي أصداءه بين ناسه, فليس من المعقول أن يباع الماء في حارة السقائين أو تكسر المملحة في المكان الذي يكثر فيه الملح. (الغرب غرب والشرق شرق)جملة بسيطة في ظاهرها, قالها لورانس العرب عن خبث ولكنها دقيقة وعميقة, كيف لا, وهو الذي خبر صحارى العرب وواحاتهم فأصابته لوثة الحكمة وسحر الشرق. الشرق الذي قد يختصره خنجر صنعه حدّاد عجوز في بخارى ليصل عبر طريق الحرير إلى يد عطيل المورسكي ويستقر في صدر ديزدمونه بالبندقية، الشرق الذي قد تقوله سجادة أعجمية فصيحة و أطول عمراً من صاحبها, في كل خيط منها عنفوان قوقازي أو عشق تبريزي أو مهارة حلبي أو رقة قيرواني.
ليس من باب الاعتباط أن يضع كل معلم ضربته( توقيعه) في ركن خفي من السجادة وهو خطأ مقصود لا يعلم سره إلا مريده (صانعه) في لغة تواتر مدهشة وليس من باب المصادفة أن تسمو المهارة والإتقان فتطير السجادة البساط في ألف ليلة وليلة فوق الريح لتحلّق بصانعها نحو التوق للمطلق والكمال… مثل نداء إجلال وتكبير خالدين على الدوام.
حكيم المرزوقي
كاتب تونسي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء