حوار مع الدكتور الأديب والشاعر حسين الحموي ..
_______________________________
(الجزء الأول)
نحن هنا أمام فيض الشعرية بكل تجلياتها الإبداعية في أعمق رؤاها, حيث تنسرب الحروف والكلمات على شكل شلال كما القصائد التي تضيق العبارة فيها أمام الدلالات والمعاني المتشظّية معبرة عن الذات الشعرية المتماهية مع بوح القصيدة التي يكتبها الشاعر حسين الحموي. ومع كتاباته النثرية باعترافه "كل ما أبدعته شعراً أو نثراً هو أنا" وهو ما جعل لقصائده عبق الياسمين. والبرق الذي يسبق الرعد. ورائحة الأرض عندما يبلل وجناتها المطر. وعذوبة تغريد طائر البلبل على غصنه بعيدا عن قفصه الذهبي, يتأهب للسفر على جناح غيمة الى فضاءات أكثر حرية واتساعاً غير مكترث بما يحد من توحده مع قصيدته. كيف لا وهو المعانق لها في الشعور واللاشعور منذ البداية وحتى النهاية. بعد أن تستقر في القلب والروح والمخيلة فكرة ناضجة تنتظر بمحبة واشتياق للانتقال من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل. أما الذكريات المعتقة, فهي تلون تلك القصائد بألوانها القزحية.
الشاعر حسين الحموي ثري الحدس والتخيَّل يقبض على أدواته الفنية والمعرفية بأصابع مشدودة. باتجاه الكشف عن اوجاع الوطن والناس البسطاء المقهورين. والقضايا الوطنية والقومية والإنسانية, وهموم الانسان في مجتمعه وفي كل مكان من هذا العالم. بسلمية .. حيث عاد إليها الشاعر حسين الحموي مؤخراً ربما ليستقر بها, أو ليقضي بها ردحاً من الزمن. كان لنا معه هذا الحوار:
*السؤال الأول: نظمت الشعر في المرحلة الإعدادية, وفي المرحلة الثانوية تبلورت موهبتك الفنية والشعرية والرياضية فأفعم النضج كامل شخصيتك المتميزة .. فما هي أسباب اطلاق صفة السبق الزمني على الشاعر والمسرحي والصحفي حسين الحموي منذ صغر سنه ؟
*حسين الحموي: تنفست عطر الأدب منذ صغر سني في بيت مثقف, فوالدي الشيخ "علي عابد الحموي" وهو شيخ وقور وجليل ويمتلك الكثير من الكتب التي وجدت نفسي أتجول في رياضها, حيث أثارت اهتمامي وجذبتني للاطلاع على محتوياتها الأدبية والفلسفية, بالإضافة الى الأثر الذي تركه أخي الكبير "خضر الحموي" ببعض الكتب الذي يحتفظ بها كقيمة مضافة الى هذه المكتبة, فتلك الرياض الأدبية والثقافية التي أنعم بها جعلتني كالزائر لحديقة يتنفس ما بها من عطر الورد, كما أني وجدت الأرض الخصبة بتشجيع من الأستاذين المرحومين "إسماعيل عدرا" و"إسماعيل حمود", وفي المرحلة الثانوية كان الأستاذ "أحمد درويش" وقد اجمعوا بنظرتهم لي كطالب متميز ومتفوق في اللغة العربية, فأنشأت العديد من مجلات الحائط, كما عملت في مجلة "الفكر" التي أصدرها الأستاذ إسماعيل حمود, أما الصف الحادي عشر فأخصه للذكرى المشؤومة حين استشهد صديقي الطالب "حسن خروس" أثناء قيامنا بمظاهرات طلابية ضد الانفصال السوري المصري عام 1962 م, فألقيت قصيدة كتبتها تحت ظلال أشجار الفيجة بسلمية في اليوم الثاني الذي استشهد فيه "حسن "وكنا مجموعة من الطلاب منتظرين جثمانه لمرافقته الى مسقط رأسه في قرية المفكر لدفنه, حيث ألقيتها في المقبرة وكان مطلعها:
حسن أخي نفسي تصارع نفسي لأثور كالبركان من حادث الأمس
وفي حفل التأبين الذي أقمناه له في مدرسة المفكر وكان مديرها آنذاك الأستاذ الكبير "مصطفى حويجة" الذي شجعنا وتحمل المسؤولية النضالية بالدفاع عنا اتجاه مخفر الشرطة الذي أراد منعنا من إقامة التأبين بإيعاز من مدير المنطقة الذي كان سبب استشهاد الطالب حسن خروس, فأقمنا حفل التأبين هذا وألقيتُ قصيدة وطنية الى جانب الرثاء, تنطوي على قرابة ثلاثين بيتا من الشعر أذكر منها:
ثارت لواعج مهجتي بلباني فارتاع قلبي ثم شلَّ لساني
وتفجّرت كلم الشهيد بأدمعي حتى غدوت مضّرج الأجفان
كبش الفداء ستبقى آية الزمن لعابر الدرب فوق الشوك والمحن
أسطورة الحب محفوظ مبرحها بالقلب تنقلها أذن الى أذن
وحين قمت بزيارة أحد الأصدقاء منذ عدة سنوات في قرية المفكر, ذهبت الى المقبرة وقرأت الفاتحة للمرحوم الشهيد الطالب حسن, فوجدت معظم كلمات البيتين من الشعر مقروءة رغم مرور أصابع الزمان والريح عليها. وفي ذات الوقت دفعني ما أتمتع به من نشاط وحيوية الى البحث عن إنجاز مسرحي, فشكلت مع عدد من الأصدقاء نادياً رياضياً وثقافياً وفنياً اسميناه "ذي قار" في السنة إياها التي استشهد فيها حسن, فأقمنا عدة مباريات رياضية في المنطقة وفي مناطق أخرى, كما أقمنا نشاطاً فنياً متميزاً بتقديم مسرحية "ذي قار" على مسرح المدرسة الزراعية, حيث أقبل الناس لمشاهدة المسرحي هذا أفواجاً غفيرة, فهؤلاء الشبان منهم من أصبح مهندساً أو صحفياً أو ضابطاً أو طبيباً أو سياسياً مرموقاً. فأتمنى على من يؤرخ للحركة المسرحية المبكرة في سلمية أن يلحظ هذا العمل المسرحي, لكن الشيء المحزن أن الترخيص القانوني لم يمنح لنا لأسباب سياسية باعتبار معظم أعضاء مجلس الإدارة والمؤسسين والأعضاء من اتجاه وحدوي لذلك أغلق النادي بعد أن تشكل له مشجعون وجمهور شعبي عريض. باختصار شديد هكذا كانت البدايات الأولى والركائز الأساسية المبكرة والعناوين البارزة لبداياتي الإبداعية في بلدتي سلمية.
*السؤال الثاني: قمت بتلوين قصيدتك "فاطمة وطيور الفجر المهاجرة" فنياً باستخدامك الانزياح اللغوي في بناءها, هل يقود ذلك الى إحساس القارئ بالغموض والإبهام في إدراك المغزى من القصيدة ؟ وكيف يبني حسين الحموي قصيدته الشعرية ؟
*حسين الحموي: إن قصيدة "فاطمة وطيور الفجر المهاجرة" هي ملحمة شعرية تصوّر الواقع العربي المحاصر والمقموع, كما أنها تعطي ملمحاً للثورة القادمة على جناح فاطمة بكل تجلياتها الرمزية والاسطورية حاملة في احدى يديها قمر الحرية, وفي اليد الأخرى بشارة لإنحسار الظلمة أمام سطوع الشمس. إننا نرى في وجه فاطمة حزناً ومأساة, لكنها في الوقت ذاته تحمل وجه الأمل والفرح, كما أنها حملت من المعاني والدلالات والانزياحات والتناصات الشيء الكثير. هذا ن حيث مضمونها, أما من حيث شكلها فنقع فيها على شيء خارجاً عن المألوف, حيث الانتقال من بحر الى بحر آخر ومصادفة الجزر النثرية, وتداخل الإيقاع الخارجي مع الداخلي, وثمة بعض المقاطع الشعرية الملتزمة بالموسيقى على سبيل التوقيع الرصين وربما الموزون عروضياً..
جسدي زورقاً يحترق ... وأنا قلعة من الرماد ... كلما ازداد بحثي عن الضوء ... ضاقت بجذعي البلاد ... من يعرف الطريق الى جهة الضوء ... فليدنُ من شجري
لقد قدمت رؤيتي الشعرية التي أؤمن بها, ساعياً الى تحقيقها شكلاً ومضموناً, فإنني في هذا النوع من الكتابة التي اخترت لها مصطلحاً قد لا يكون جديداً لكنه مجدداً للقصيدة الحديثة هو "القصيدة التشكيلية" التي يكون الشاعر فيها طليقاً وحراً باختيار لغته وإيقاعه بمنتهى العفوية والصدق وبمعادل موضوعي يوازي تلك المشاعر ويعبّر عنها شعرياً من حيث ينبغي أن يكون لكل شاعر رؤيته وقاموسه اللغوي واضافاته الجمالية على القصيدة الحديثة التي لا شكل نهائي لها.
أنا أزعم أنني أملك هذه الرؤية, وفاطمة في هذه القصيدة تبشر بهذا الملمح الرؤيوي .. فمن يقرأ هذا النص بعناية وعمق ويتوغل في المبنى والمعنى حتماً سيكتشف التشكيل الشعري فيها شكلاً ومضموناً ويجد في ثناياها القهر والمعاناة والمنفى, إلا انه سوف يجد في وجهها المقابل الإصرار على التجاوز والبحث عن الضوء. ففي نهاية المطاف تخرج فاطمة مع طلوع الشمس من رحم الظلمة كعروسة الصباح التي يتوجها قوس قزح المطر الغزير الذي يغسل كل الأدران العالقة بالجسد العربي وكل الأحزان العميقة لانطلاقته باتجاه الأمام حاملة بشائر الفرح الانتصار للعالم أجمع, إذاً فاطمة هي الرمز والأمل والإرادة والثورة, وهي الرؤية المستقبلية الحالمة التي ترفض ان تبقى قاتمة .. لعل فاطمة تكون الرؤية التفاعلية بين الذات الشاعرة والواقع التي ينبغي ان تحمل شيئاً من الأمل وشيئاً من الحلم بالآتي من الأيام مهما كان ليل الإحباط واليأس داكناً, ولعل فاطمة في هذه القصيدة عبّرت عن هذا الحلم في مواجهة تلك الاحباطات القاتمة.
يتبع ..
إعداد:
الإعلامية رؤى_حيدر
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء