القبرات الثلاث
(الجزء الثاني)
وفجأة رأت حيواناً مجتر يقضم الأشواك المتجمدة، فطارت نحوه ثم هتفت مندهشة: "هل أنت المعلم؟" فأشار لها بالنفي وتابع اجتراره، فسألته من جديد: "هل أنت الحكيم؟" فرد عليها " هم يقولون هذا، لكنني لستُ كما تصفين"
-- " إذن من تكون"
-- أنا مجرد مخلوق من مخلوقات الله ، لكن لماذا تسألين؟
--"انني أبحث عن الحكمة"
-- أنا مثلك أبحث عنها
-- و ماذا تعلمت؟
-- تعلمت أن الحكمة هي الحق
-- الحق !؟
-- بلى
-- وماذا بعده؟
-- الحق فقط ، لا شيء قبله، ولا شيء بعده
-- أتسخر مني؟
-- لا أسخر منكِ ، أنت سألتِ ، وأنا أجبتْ
-- وماذا يعني الحق؟
-- يعني ألا تعتدي على الآخرين وألا تدعي الآخرين يعتدون عليك
-- أهذا فقط ؟
-- نعم، هذا هو الأساس، فإذا فعلتِ فلحتِ
-- وماذا عن الفروع؟
-- الفروع كثيرة
-- مثل ماذا؟
-- مثل أن تجتهدي، ومثل أن تساعدي نفسكِ دون أنانية وأن تحبي العمل وأن تساعدي الآخرين بقدر استطاعتك.
-- وماذا أيضاً؟
-- الكثير، الكثير ، الحياة نفسها ستعلمك
-- هل هذا كل شيء؟
-- قلتٌ الحياة ستعلمك
-- وماذا عليّ الآن أن أفعل؟
-- عودي من حيث أتيتِ
لكن القٌبرة الصغيرة ظلت واقفة تحدق في الحيوان المجتر وهي سارحة بأفكارها وخيالتها، ثم قالت: "أفكر في أن أبقى هنا وحيدة أتأمل في الأمور التي قلتها لي"
--تريدين أن تكوني وحيدة!
-- بلى أرغب بالعزلة حتى تكتمل الحكمة
-- الحكمة ستجدينها في حياة الآخرين، وفي مشاركتك لحياة الآخرين، أفكارهم وآمالهم وأفعالهم.
-- ولكنني أرغب بالبقاء معك
-- لا عودي إلى موطنكِ ، إن شئتِ علمي هذه الأمور لبقية القبرات
-- حسناً
ورغم البرد الشديد طارت القٌبرة عائدة إلى غابتها وقضت أسابيع أخرى في رحلة العودة، وكانت كلمات الوعل الحكيم لا تغيب عن بالها.
وأخيراً وصلت القٌبرة الصغيرة إلى أطراف الغابة في المكان التي صادفت وصديقتيها الطائر الشاب، وفوجئت بأن صديقتها البدينة لا تزال في نفس المكان تقريباً تركن على أحد أغصان الأشجار، لكن شكلها تغير كثيراً فبدت ضعيفة مترهلة، فحطت بقربها وألقت عليها التحية.
وفوجئت القٌبرة البدينة بعودة صديقتها وعلى الفور سقطت الدموع من مقلتيها.
--" ماذا جرى" هتفت الصغيرة بلهفة
-- بعد أن رحلتِ اختارني الطائر لأكون رفيقة دربه، لكن الطويلة خطفته مني واليوم طلبت مني أن أغادر وإلا ستلقنني درساً
-- وماذا حلَّ بك لماذا تغير شكلك كثيراً
شعرت البدينة بالارتباك ثم قالت وهي تتلعثم: " إنني أعمل كثيراً ولا آكل إلا القليل، أقضي طوال اليوم وأنا أبحث لحبيبي الطائر الشاب عن الديدان الصفراء وهي نادرة جداً، ولكنني أعثر على بعض منها أحياناً فيفرح مني"
--وإن لم تعثري عليها، فما الذي يحصل ؟
-- سيغضب مني ويسمعني كلاماً قاسياً
-- وماذا تأكلين أنتِ
-- البقايا
فكرت القبرة بأن تتابع تحليقها فهذا الأمر لا يعنيها وصديقتها فقدت كرامتها ولم تعد تستحق المساعدة، لكنها تذكرت كلمات الحكيم بأن الحكمة تعني الحق وتعني مشاركة الآخرين، ثم قالت لنفسها "هذا ليس حقاً ، هذا الظلم بعينه" تم تحدثت إلى صديقتها: " أن هذا الطائر يستغلك أبشع استغلال، وأظنه يخدعكما معاً"
--" لا لا تقولي هذا أرجوكِ"
-- " إنها الحقيقة، لقد حولك إلى خادمة عنده، لا بل إلى عبدة تعمل دون مقابل"
-- " لقد وعدني بأن يقترن بي"
-- كلها وعود كاذبة .
في تلك اللحظة وصلت القٌبرة الطويلة واستغربت من عودة القٌبرة الصغيرة وشعرت بالغضب الشديد لأن البدينة لم تغادر فصاحت من فورها: "ألم أطلب منكِ أن تغادري" ثم هاجمتها بعنف تريد العراك معها، أو حتى القضاء عليها.
عندها تدخلت الصغيرة وصاحت: " أرجوكما لا تتقاتلا من أجل ذاك المخادع، أنه لا يستحق خصامكما"
--" لا تتحدثي عنه بسوء، إنه خطيبي" هتفت القُبرة الطويلة
-- " بل خطيبي أنا، لقد خطفته مني" ردت البدينة بقهر
-- لقد حولكما إلى لعبتين عنده، والآن سأثبت لكما صحة ما أقول
-- كيف ستثبتين ذلك؟
-- الآن ستريان ، أرجوكما اختبئا وراء الأغصان حتى إذا ما أتى المغرور رأيتما بأعينكما وسمعتما بأذنيكما
وما هي إلا لحظات حتى وصل الطائر الشاب بعنيه الماكرتين الممتلئتين بالمكر والدهاء.
وعندما رأى القٌبرة الصغيرة اندهش من وجودها ثم أقترب منها قائلاً: "أهذا أنت ثانية؟"
--"ألا زلت تتذكرني؟"
-- وكيف لي أن أنسى قٌبرة جميلة مثلكِ
-- هل أنت واثق من هذا ؟
-- كل الثقة، أنسيتِ أنني أبحث عن رفيقة دربي ؟
-- إذن تريدني شريكة حياتك
-- بلى ، بلى ، ليتكِ تقبلين
-- لكنني سمعتُ أنك خطبت القٌبرة الطويلة أو ربما القٌبرة البدينة أو حتى كلتيهما
-- لا ، لا ، إنهما قٌبرتان غبيتان ولا يمكنني أن أرضى بأي منهما، أنا فقط أتسلى
صاحت عندها القبرة : " أرأيتما أيتها الصديقتان" فظهرت القٌبرتان من مخبئيهما تصفقان بجانحيهما له، وفوجيء هو بوجودهما
--"يا إلهي كم كنتٌ مخدوعة بك" قالت البدينة بقهر
--" يالي من مجنونة، كدّتُ أخسر نفسي وصديقتي من أجلك أيها الشرير"
-- "اسمعا ، كنت فقط أمازحها" قالها الطير متلعثماً
-- "والآن دعونا نعود إلى سماءنا و أرضنا" قالت الصغيرة بحزم
-- "حقاً .. لنعد أدراجنا"
ثم حلقت القبرات الثلاث وكلهن شوقاً للعودة إلى الوطن.
تمت .....
تأليف : علي حسين الحموي
رسوم : أيهم رستم
رسوم : أيهم رستم
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء