pregnancy

معادلات العقل والنقل على الساحة الإسلامية








معادلات العقل والنقل على الساحة الإسلامية
_________________________________

تعرّضنا في مقالنا السابق للصدمة الحضارية المتمثّلة بترجمة الفلسفة اليونانية، ودورها في اضطّراب التفكير الديني، واضطراب الوصول الى معادلة متوازنة بين العقل والنص... طبعا، دون نلغي دور العوامل الأخرى في هذه المسألة.

لقد أفرزت الاختلافات في هذا الصدد آراء متعدّدة، وصلت حد التنافر ،كما اشرنا، وهذه الآراء يمكن تصنيفها في ثلاثة اتجاهات رئيسية، وإن كان هناك تمايزات جزئية تفصيلية يصعب إحصاؤها والوقوف عليها في مثل هذا المقال:

 * الاتجاه الإيجابي: وهو الاتجاه الذي اعتمد العقل واعتبره حجّة ودليلا في الاستدلال بما في ذلك الإلهيات والعقائد. وقد تجلّى هذا الاتجاه تاريخيا بالمعتزلة والإمامية غير الباطنية؛ حيث توافقت الفرقتان على إثبات أصل الشرع من خلال العقل، كما أنهما اتفقتا على أنّ العقل قادر على اكتشاف مواطن العدل ومواطن الظلم في الأفعال عندما تتوافر له المقدمات، وبالتالي يستطيع إصدار حكمه بالقبح والحسن حول هذا الفعل أو ذاك. ومن هنا ذهبت الفرقتان إلى أن الله سبحانه يستحيل أن يدخل المطيع المؤمن في جهنم، فيما اعتبرت الفرق الأخرى أن العقل ليس له حكم في مثل هذا الفعل... طبعا اختلفت الإمامية مع المعتزلة في مسائل أخرى؛ من قبيل ذهاب المعتزلة الى التفويض في أفعال الإنسان، فيما قالت الإمامية بأنه لاجبر ولاتفويض ولكن أمر بين أمرين، اعتمادا على حديث الإمام الصادق (ع)...
ويضاف إلى هاتين الفرقتين جماعة الفلاسفة المسلمين الذين تميّزوا بمناصرة العقل، إلا أنهم كانوا أكثر التصاقا بالفلاسفة اليونان، رغم إضافاتهم التي لاتنكر، ورغم النضوج الذي شهدته الساحة لاحقا، ولاسيما من خلال مدرسة أصفهان في إيران. هذه المدرسة التي لو سألت عنها الآن معظم آكاديمييّ أقسام الفلسفة في الوطن العربي عنها، لأجابوك أننا لانعرفها، أو لايفقهون مقولاتها. فضلا عن مدرسة الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي في إيران أيضا، وهي مدرسة استطاعت الجمع بين (النص والعقل والقلب) من خلال مقولات إبداعية،  أعادت الاعتبار للعقل المسلم، كما عبّر المستشرق الفرنسي (هنري كوربان) في مؤلفه الموسوعي حول هذه المدرسة.

* الاتجاه السلبي: وهو الذي رفض العقل نهائيا. ويمثله في الحقيقة اتجاهان رغم تنافرهما! وأقصد بذلك:

      1 أهل الظاهر: وهم الذين اقتصروا على ظاهر النصّ، ومضوا في استنطاقه حرفيا، بعيدا عن أي تأويلات عقلية، لدرجة أن هؤلاء نسبوا اليد والوجه والعين... لله سبحانه، تماما كماذكرت في القرآن والروايات!! ويمثل هؤلاء أهل الحديث من الحنابلة، والوهابية في العصر الحالي...
                
       2 أهل الباطن الذين اعتبروا النصوص مجرّد رموز، لايفقه أسرارها إلا فئة لها مكانتها عند الله، نظرا لامتلاكها الحكمة والحق!! وهؤلاء رغم اعتمادهم على المقولات الفلسفية، والتي يفترض فيها اعتماد العقل والاستدلال، إلا أنهم نسفوا ذلك عندما لووا أعناق النصوص ومداليلها الظاهرة، لصالح المقولات الفلسفية التي آمنوا بها، لذلك باتت النصوص "شيفرة" لايفهمها إلا هم...

 * الاتجاه التجزيئي: وهو الاتجاه الذي اعتمد العقل في الإلهيات، لكنه اعتمده مجتزء؛ ففي إثبات وجود الله وبعض صفاته ستندوا إلى العقل؛ بينما أقصوا العقل في باب تحسين الأفعال وتقبيحها، وبالتالي لم يسمحوا للعقل بإدلاء رأيه في مسألة العدل الإلهي، لدرجة أنهم صرّحوا بأن العقل لا يقبّح أن يدخل الله إنسانا صالحا في النار!! كما أنه لايحسّن إدخال نفس الشخص في الجنّة!! وأبرز ممثلي هذا الاتجاه هم الأشاعرة والماتريدية...

لايسعنا ونحن نمرّ على اتجاهات  المسلمين حول العقل أن نغفل الحركة الفكرية التي حدثت منذ ما أطلق عليه (عصر النهضة) على الساحة العربية والإسلامية؛ حيث فرضت المتغيّرات العالمية نفسها على العقل المسلم. ولا نخفي أن هذا أدى الى انقسام آخر، وأدى إلى انسلاخ شريحة كبيرة من المسلمين والعرب عن الطرح الديني الشامل، تأثّرا بالحداثة الغربية من جهة. ونضوب طرح الإسلاميين وعدم القدرة على المواكبة من جهة أخرى. ولكن هذا لايعني العجز والعدمية في الفكر الإسلامي، إلا أن عوامل داخلية وخارجية وعلى رأسها العوامل السياسية وقفت حائلا دون وصوله بصورته الصحيحة...
وهنا لايمكننا إلا ذكر بعض الرموز؛ منهم الرواد الذين استنهضوا الأمة بعد الصدمة الحضارية مع الغرب؛ من أمثال: رفاعة الطهطاوي، السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، ومحمد إقبال، وأحمد خان... وغيرهم. علما بأن هؤلاء غلب على دورهم  بثّ روح النهوض وتجاوز المستنقع المعرفي الذي وصلت إليه الأمّة، فلم يوفّقوا من جهة العمل التأصيلي وإبراز أسس ومعالم الفكر الإسلامي في اللحظة التاريخية الحرجة!
ومنهم المتابعون الذين وفّق القليل منهم في عملية التأصيل نسبيا؛ من قبيل: محمد حسين الطباطبائي في إيران، ومحمد باقر الصدر في العراق، وعماد الدين خليل في العراق أيضا، ومالك بن نبي في الجزائر... وغيرهم.

جمال صالح جزان 

شكرا لتعليقك