الهوية الشخصية
.......................................................................................
انطلقتْ سيارةُ التكسي العمومي نحو حلب الشهباء ..المدينة التي يرفرفُ خافقي لحروفها .. وكنا خمسةَ ركابٍ بالإضافة للسائق .. راحَ صوتُ أبوعبدو يعلو .. ويكثرُ من المزاح .. والكلمات الطريفة . يحدّثُ هذا و يضيّفُ ذاك.. و كنت أجلسُ بجانبه مباشرة . توجّهَ نحوي ، وقالَ : يبدو أن الأخ ، لا يحب أن يشاركنا الحديث.. ابتسمتُ ، و قلت : أنا أحبُّ الإصغاءَ و الاستماعَ أكثر من من الكلام . سألني مباشرة : من وين الأخ ؟؟ قلتُ : من سلمية ..، آه ..أي صحيح أنتو ..!! توقَّفَ قليلاً .. عاجلتُه ، فقلتُ : هل تقصد سمعولي ، أو اسماعيلي ؟!!
ابتسمَ ابتسامةً بلاستيكيةً ؛ بامتياز .. قلتُ : لا ..لا اسماعيلي و لا سمعولي ..أصرَّ بقوله : كيف لا ؟! و أنت من سلمية !.. ابتسمتُ بهدوء .. عددتُ له أسماءَ أسرٍ حموية ، و حمصية و طرطوسية و أرمنية و شركسية تسكنُ في سلمية ..قال : أنا أقصدُ الديانة ؟؟ قلتُ له: أنت تخلط بين الديانة و المذاهب ..هل أنت سني .. ؟ قلتُ : لا لستُ سنياً ( لا شافعياً، ولا حنبلياً و لا مالكياً و لا حنفياً ) ، قال إذن الأخ علوي ؟؟ قلت له: لست علوياً و لا شيعياً .. و لا اثني عشرياً . تململَ قليلاً .. قال : لا بُدَ أنك أخٌ مسيحي ، ..و أعتقد أن لحيتي ..(السكسوكة) قد أشكلتْ عليه حدسَه ..فقلتُ : لستُ مسيحياً (لا روم أرذثوكسي ، و لا روم كاثوليكي ، و لا بروتستانتي ، و لا من الموارنة ، ولا قبطي ..) .هزًّ برأسه .. غريب .. هل ممكن تكون أخاً درزياً ..رغم أن السويداء بعيدة من هنا .. قلت له : لست درزياً و لا أنا من البهرة و لا يهودياً ، ولا هندوسياً ، ولا بوذياً و لا أنا من عبدة الشياطين و لا من عبدة النار . و ضحكتُ .. امتعضَ قليلاً أبو عبدو .. شو الأخ جاي من القمر ..أو من سويسرا ..؟؟ و تابع : شو أنت مانك عربي .. ضحكتُ.. قلت : لا .. لست عربياً و لا كردياً ، و لا تركمانياً و لا أرمنياً و لا شركسياً ، ولا آشورياً و لا يزيدياً ، ولا داغستانياً و لا شيشانياً ،ولا كلدانياً..و لا لاتينياً و لا سريانياً.
كادَ أبو عبدو ينتفض ..و يبدو أن الركابَ طابَ لهم الحوار ، و كنتُ في قمة الهدوء ، وكانَ ينهشُه حبُ الفضول لمعرفة هويتي .. و مذهبي أو ديانتي ..، و لكن يبدو أنه سمعني ،عندما انطلقتْ السيارة برعاية الله ، أنني قلتُ : ( يا الله يسّرْ ولا تعسّرْ ..ويا رضى الله و يا رضى الوالدين)،..و إلا كان بودّه أن يسألني ، إن كنتُ ملحداً ،أو مشركاً أو كافراً ..أو. .
هدَّأَ من روعه ..ثم قالَ : مشان الله ..قل لي هويتك و ديانتك ؛ أيها الشاب..؟؟ و لما هممتُ بالجواب ، توقفتْ السيارة أمام دورية .. طلبوا رؤية الهويات الشخصية ، و شاءَ القدرُ أن أبو عبدو كان الراكب الوحيد ، الذي لم يكنْ يحملُ هويته الشخصية.. اقتربَ أحد عناصر الدورية ، و سألهُ أن يتفضّلَ من السيارة ..فنزلَ ..بدتْ عليه علاماتُ الذهول و الارتباك.. و راحَ يقولُ : أستغفرُ الله ، كيفَ نسيتُ الهوية .. المهم بدأ بعضُ الركاب بالإصرار على السائق بالمتابعة لحلب ، لأنَّ لديهم أعمالٌ تنتظرهم .. ومنذ دقائق كانوا يتمازحون ، و يتبادلون الضيافةَ و الطرائف ..واحتارَ السائقُ ماذا سيفعل !! قلتُ لهم : يا شباب ..طولة البال من الرحمن..منذ قليل كان الجو مرحاً ، وأبو عبدو قد يحتاجُ لمساعدة .
و رحتُ أقلّبُ بصري بعناصر الدورية ، فوقع ناظري على الضابط و المسؤول عن الدورية ، و أنا أعرفه جيداً ..وابن بلدتي . ترجّلتُ من السيارة .. وبعد التحية والسلام ؛ استقبلني بحفاوةٍ و مصافحة ودية . وفي هذه الأثناء قال المساعد لأبي عبدو : يجب أن تبقى معنا ، و تذهبَ إلى مركز الشرطة ..و كذا ..و كذا لنتعرّفَ عليك ..الخ. و أبو عبدو صامتٌ لا مزاحاً و لا أسئلة ..ولا..ولا ..
قلتُ لصديقي الضابط :هل لك أن تأخذ هويتي أمانة و عربوناً عندكم ؟؟..و لن نبرحَ المكان إلا و أبو عبدو معنا ، لأن هناك حديثٌاً شيّقاً ؛ لم يكتملْ بعد..أليس كذلك يا أبو عبدو !! ..ابتسمَ بطريقةٍ مؤثّرة .. المهم تفهّمَ الضابطُ الموضوعَ ، وكتبَ تعهّداً ، و أنا وضعتُ توقيعي كشاهدٍ ؛ أنني أعرفُه ، وأنه سوري ..الخ.
و أعطاهُ الضابطُ ورقةً ، تسهّلُ المرورَ و العبورَ ، وعدنا إلى السيارة ، و تابعنا الرحلة إلى حلب . بقي أبو عبدو بضع دقائق مذهولاً صامتاً ، كلُّ همّه أن يصلَ إلى حلب ، و يخبرَ أسرته ، أن ترسلَ هويته الشخصية بأسرع ما يمكن مع أي سائق ؛ من أجل العودة..!!
حاولتُ أن أمازحَه : هل تريدُ معرفةَ هويتي و ديانتي أو مذهبي ..؟؟ ضحكَ ، وشكرني ..قلت :لا تشكرني.
هويتك الشخصية التي نسيتَها ..، استخدمتُ هويّتي بدلاً عنها كضمانة وكفالة ، لتوثّقَ شهادتي أنك سوري .. و سوري فقط.. و هي نفس الهوية السورية التي يجب كلنا ، أن يحملَها و يباهي بها !!! .
و لما وصلنا الكراج ، ودّعني بحرارةٍ ، أحسستُ بلهيب الهوية السورية ، و كانتْ دموعُه ترسمُ على خديه ؛ الرقم الوطني لهويته السورية.
مع تحياتي...
٥ شباط ٢٠١٦
د.نورالدين منى


خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء