وأطلق عـلماء الإدارة اسم «الثقوب السوداء» اصطلاحاً: عـلى المهام الهامشية التي تستهلك أوقاتنا؛ ولاتزيد في إنتاجيتنا.
من أهم ميزات المؤسسات ذات التنافسية الأعـلى في يومنا هذا.. لا حجمـها الكبير أو ميزانيتها الضخمة؛ بل ببساطة: قصر زمن تأقلمها مع المتغـيــّرات؛ أي سرعـتها في ردة الفعل.
والزمن هو أهم متحول في عـصرنا الحديث؛ إلا أننا – ويا أسفاه- لانعـيره اهتماماً البتـة!
«الوقت هو المال»، عبارة استخدمها بنجامين فرانكلين بمقاله عام 1748م، تبدو هذه العبارة حقيقية، ولكن في الواقع الوقت أثمن بكثير من المال، فهو مورد قيّم ومحدود، يمكن للمال المُهدر أن يُسترجع، ولكن ثانيةً واحدة مهدرة لا يمكن استرجاعها للأبد!
يقول عالم الاجتماع الأميركي جيمس جونز: في أميركا هناك فرق بين البيض والسود من ناحية النظر للوقت، البيض يقدسون الزمن ويحرصون على الالتزام بالوقت، أما السود فلا تتعلق حياتهم بالساعة بل لا بأس من التأخر على المواعيد والاستمتاع ببعض الحرية.
لما ذهب الباحث إلى ترينيداد (دولة في البحر الكاريبي) تفاجأ: أهل المنطقة متراخون مع الوقت كأنه مُلك شخصي لكل مواطن، هو يغدو ويروح كما يحلو له، يغيب عن العمل من دون سبب، يكفي أن يقول: «لم أذهب لأنه ما كان لي مزاج»، الأحداث – أياً كانت – تبدأ إذا أتى الناس وتنتهي إذا انفضوا، لا لأن الساعة صارت كذا!
والتفاوت شاسع بين الأمم في النظر للوقت، فنحن أفضل بكثير من أهل ترينيداد، لكننا أقل التزاماً من الألمان واليابانيين الذين يقدسون الوقت، حيث إن تأخر بضع دقائق عـن صاحبك يعد لطمة على وجهه، وطبيعة الحياة تفرض على الأمم سلوكها؛ وخذ أهل بوروندي/إفريقيا مثالاً، فأغلبيتهم مزارعون، فصارت هذه المهنـة تحكم تنظيم وقتهم، وتحديداً: البقر، البقر عماد الحياة والاقتصاد؛ لذا صارت المواسم كأنها ساعة كبيرة، إذا أردت لقاء صديقك صباح اليوم التالي فلا تقل إنك ستلتقيه الساعة الـ10 صباحاً، بل تقول: أراك غداً إذا انطلقت البقر ترعى، هذا يمكن أن يكون الساعة 8 أو 10 أو 12، أو تواعده قائلاً: أراك وقت شرب الأبقار من النبع، حينها لا يهم أن تصل مبكراً أو متأخراً، فالوقت متراخٍ متمدد، سواء الساعة الثانية أو الرابعة أو السادسة، كلها سواء.
نعم، تتفاوت الأمم في نظرتها للوقت، فعند البورندي: شرب بقرته من النهر كأن تنظر لساعتك لتعـرف الوقت.!
طور أيزنهاور إطاراً لتحديد الأولويات وإدارة الوقت والمهام، أُطلق عليه فيما بعد «مصفوفة أيزنهاور» وقد قسّم الأولويات لأربع فئات: مهمة وعاجلة، مهمة غير عاجلة، غير مهمة وعاجلة، غير مهمة وغير عاجلة، وقد تعامل معـها كالآتي:
– يتم التعامل مع العناصر المهمة العاجلة على الفور
– تتم جدولة وقت لإنجاز الأمور المهمة غير العاجلة
– يتم تفويض الآخرين لإنجاز الأمور غير المهمة العاجلة
– يتم إلغاء الأمور غير المهمة، وغير العاجلة.
طريقة الفرز تلك من التقنيات الناجحة في تنظيم الوقت، وإدارة الأولويات، تم تطويرها في الحرب العالمية الأولى.
قبل يومين مررت بتجربة سلبية تركت ندوبا ً فيّ.. انطلقت لملء خزان سيارتي وقوداً؛ وبسبب الأزمة بكـّرت (الرابعـة بالفجر), وعـدت محبطا ً وبلا وقود منتصف اليوم؛ وكان جل ّغـضبي ليس بسبب الفشل؛ بل لإضاعـة الوقت وهدره (لألف منتظر تركوا أشغالهم؛ وصرفوا 8 ساعات بلاطائل)؛ ومافتئنا نتشدق بالتنظيم وإدارة الوقت!
والوقت أمر نسبي؛ كما يوضح المثل الباسكي «من ينبغي أن يشنق في الفصح يجد الصيام قصيراً»!
تُصنف خدمة السكك الحديدية اليابانية ضمن الخدمات الأعلى كفاءة عالمياً، نتيجة السعي الدؤوب للالتزام بالمواعيد، وقد دفع الاحترام الشديد للوقت شركة «تسوكوبا إكسبريس» التي تقلّ 130 مليون مسافر سنوياً بين طوكيو ومحافظة إيباراكي، وهي رحلة تستغرق 45 دقيقة، للاعتذار بسبب مغادرة القطار متأخراً 20 ثانية عن موعده بعام 2017! وعدته «عملاً لا يمكن تسويغه»، وأكّدت أن موظفيها سيخضعـون لتدريب إضافي، لعـدم تكرار الخطأ، ودفعت ردود الفعل الإيجابية من طرف تلك الشركات حول مسألة احترام الوقت ملايين المستخدمين للإشادة بهذا الانضباط، والحديث بإعجاب عنها!
ختاماً: قال ستيفن هوكينغ «إن الثقوب السوداء ليست السجون الأبدية كما كنا نتوقع.. فأنا أعتقد أنها قد تكون بوابة لعوالم أخرى.. لذلك إن وجدت نفسك داخل ثقب أسود لا تيئس أبداً فبالتأكيد هناك سبيل ما للخروج..», فهل نتـّبع نصيحته؛ أم نبقى داخل سجننا الوهمي الأبدي؟ !

د.سعـد بساطة