· النهضة الأوروبية
· المفهوم ،الجذور ،الانبثاق !
.......................................................................................
·
تعرف الفترة التي تبدأ بالقرن الرابع عشر و تنتهي برحيل القرن السابع عشر الميلادي ،بعصر النهضة الأوروبي ،والذي لخصه الفيلسوف "عمانوئيل كانط "في مقال نشره باحدى المجلات الالمانية الصادرة في برلين "ديسمبر ،كانون اول 1784،في تلك الجملة اللافتة بأنه:
(خروج المرء من القصور الذي هو مسؤول عنه، فلتكن لك الشجاعة- أيها المرء- على استعمال عقلك الخاص للبحث عن محك الحقيقة ذلك هو شعار التنوير )،فالفكرة الأساسية وراء كل أهداف "النهضة " التنوير عبر الاقتناع بأن العقل الانساني قادر بقوته الذاتية ودون الاستعانة بأية مساعدة من قوى وراء الطبيعة على ادراك النظام الذي يسير به الكون ،وأن تلك الطريقة الجديدة في فهم العالم ستقوده الى منهج جديد في السيطرة على هذا الكون .. فالتنوير النهضوي يسعى الى الحصول على اعتراف عام بتطبيق ذلك المبدأ في الحقول العلمية التالية : العلوم الانسانية والطبيعية وفي الأخلاق والفلسفة والدين والتاريخ والقانون وصولا للسياسة .
أما تاريخيا فيمكن القول أن جذور عصر التنوير الأوروبي تعود الى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي ، فهذا العصر يدين لفلاسفة وأدباء وفناني عصر "النهضة "وهي تلك الحقبة التي الممتدة من القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر الميلادي والتي تميزت بانتشار فكرة "النهضة "كأداة للتحرر من أغلال القرون الوسطى وبداية لعصر جديد "للفردية ، وقد بدأ ذاك العصر في صورة "الاحياء"للثقافة الاغريقية واللاتنية القديمة ، وهو التفكير المبنى على المزج بين العقيدة المسيحية ومنطق ارسطو لتلبية حاجات التطور الفكري الجديد في الغرب الأوروبي . فكان من مفاعيله انبثاق الحركة "الانسانية" المرتكزة على أحياء الآداب القديمة .
وقد انبثقت مفاعيل هذه الحركة في المدن الايطالية ،من "فلورنسا "تحديدا ثم انطلقت منها الى أنحاء أوروبا ،وتجسدت تلك الحركة في المنابع الثلاثة للأدب الايطالي الحديث (دانتي ،بترارك ،بوكاشيو )، فالشاعر "دانتي "(1265 -1321 )في ملحمته الشهيرة "الكوميديا الالهية "،حرص على نشرها بلغة بلاده الام ، أما "بترارك "(1304- 1374) فقد دعا الى وحدة ايطاليا في ملحمته الشهيرة الرائعة "أفريقية"،فتوجت هامته بأكاليل الغار في روما عام 1341 ،أما "بوكاشيو "(1313- 1375)،فقد نقد مثالب مجتمعه الاجتماعية وصورها في روايته الناقدة "الديكاميرون "، وهي الظاهرة التي انتقل تأثيرها الى بقية أنحاء أوروبا ،وتجسدت في التشجيع على استخدام الأدباء الأوربيين للغاتهم القومية في ابداعاتهم الادبية ، ففي اللغة الفرنسية نجد الشاعر "فيلون"(1432 – 1481)،ففي اللغة الانجليزية برز "تشوستر"(1341 -1400)ابداعه في "خطابات كانتربيري "وهي منبع الأدب الانجليزي .أما اللغة الألمانية فقد بلغت كمالها مع مارتن لوثر (1483 – 1546)- الذي قاد حركة الاصلاح الديني داخل الكنيسة الكاثوليكية – في ترجمته "الأنجيل الشريف "بلغته الأم ، أما في اللغة الاسبانية فقد أبدع "سرفانتس "(1557 – 1616 )،في رائعته الشهيرة "دون كيشوت ".
وكان لا بد أن ينعكس هذا الحراك الانساني النهضوي على الفنون الجميلة ،فركزت الأعمال الفنية المبدعة على "الانسان "الذي اتخذته موضوعها الاساسي واعتبرته أعظم المخلوقات ،فاهتمت بابراز قوته وأشكاله الجسمانية أكثر مما اهتمت بمعانيه الروحية وذلك لارتباطها بالفنون اليونانية والرومانية التي اعتبرت أهم مصدر لها .ولهذا ابتعدت الحركة الفنية عن التأثير الديني المسيحي وموضوعات العصور الوسطى ، فجاءت علمانية متحررة وممتزجة بتراث حياتهم اليومية ،فتمتع فنانو عصر النهضة الأوروبية بعقلية موسوعية تستوعب فنون وعلوم عصرهم ،فكان"دافينشي" (1452 – 1511)،رساما عبقريا في لوحاته الشهيرة (العشاء الأخير وموناليزا ) ،وعالما جيولوحيا وموسيقيا ومهندسا معماريا وحربيا . اما رفائيل(1483 – 1520 )،مبدعا في الهندسة المعمارية بتصميمه مباني الكنائس والقصور البابوية ،وفي نفس الوقت ابدع لوحاته في فلورنسا ،فرسم لوحة "مدرسة أثينا "الشهيرة التي ضمت رسوم مفكري الفلسفة عبر التاريخ ومن ضمنهم "ابن رشد "،أما "ميكال انجلو "(1475 -1564)،فيعتبر من عباقرة عصر النهضة الأوروبية ،حيث كان خصب الانتاج سواء في الهندسة المعمارية ببناءه "قبة كنيسة القديس بطرس "في روما ، ونحاتا باهرا في تماثيله المتعددة ومن أشهرها (تمثال موسى وتمثال العذراء الأم الحزينة "، وابدع في سقف كنيسة "السيكستين "يتصويره تاريخ الكون كما جاء في التوارة من عهد الخليقة الى يوم القيامة .
على ضوء ما تقدم كان لا بد ان تنعكس تلك الانجازات للحركة الانسانية على المجريات السياسية الأوروبية بتصاعد المطالبات بضرورة تركيز السلطة بيد "الامير"،لتحقيق وحدة الأمة والدفاع عن حدودها السياسية ،رافضة بذلك ازدواجية السلطة التي كان يمارسها البابا بالتعاون مع الامبراطور وأسياد الأرض الاقطاعيين خلال القرون الوسطى ، وتجسد ذلك في الدعوة لقيام دولة "الأمير"المطلق الصلاحيات والذي لا يتورع عن التملص من العهود ، وذلك على أساس "الغاية تبرر الوسيلة "،من أجل الحفاظ على" الأمارة " ولو كانت منافية للدين والأخلاق "على حد تعبير "ماكيافيللي (1469 – 1527 )في كتابه الشهير "الأمير".وعلى أية حال فقد مهدت الحركة الانسانية الأوروبية وتجلياتها في مختلف الاصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية لقيام حركة يقظة جديدة ،كان لها آثار هامة ليس على أوروبا فحسب وانما في العالم ككل ونعني بها عصر "الأنوار "(1670 – 1800)،الذي بلور تيارا فكريا عقلانيا قام بمواجهة سلطة الكنيسة والسلطة السياسيةالمطلقة معا ،على شكل حركة نقدية جذرية مناهضة لميثاقية الكنيسة والاستبداد السياسي ،وذلك بحث أخر .!
محمد شقال
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء