سيلفي
و رسالة إلى عنود الجبل
***********************
قطعت الكهرباء في تلك الليلة لتزيد حلكته أكثر. أشباح الفجر كانوا يتسلَّلون عبر التخوم والوديان. مجموعات من خمسة وثلاثين نذلاً يحملون على أكتافهم أحدث صنوف وسائل الموت، وفي قلوبهم أطناناً من الخسة والتخلف الأسود كسواد ليلهم المدلهم. يواصلون الصعود ويغذُّون السير إلى القرية.
سجيع، اسمه لفظ شعبي منحوت من الشجاعة، كان يعد ملابسه وحاجياته للسفر. زوجه تساعده وهي تقول: هل يجب المغادرة في الليل، التفت إليها وهو يغالب ألم الفراق ببسمة عريضة: الساعة العاشرة إقلاع الطائرة، والساعة الثامنة يجب أن أكون في المطار. وأحتاج لساعتين من هنا إلى دمشق. يجب أن أغادر عند الساعة السادسة.
كانت تداري أن يرى دموعها تتساقط.
- لا توقظي الأولاد إلا عند مغادرتي.
عقارب الساعة تقترب من السادسة. السيارة لم تطلق صوت الزامور بعد. سحب هاتفه الخلوي واتصل بالسائق: يسعد صباحك، أين أنت؟
قال السائق بصوت كأنه الحشرجة: سلم لي على الجميع. عصابة سلبوا السيارة مني وأطلقوا النار علي، "يا بتحلقني يا أما ما بتلحقني، اسعفوني".
- أنت أين؟
- لا أبعد عن البلدة أكثر من واحد كليومتر. بجانب الطريق. أعاني من نزيف شديد في الصدر.
- دقائق وأكون عندك.
قفز لفوره. استل بندقية عتيقة من على الجدار. واتجه إلى التبان. أخرج قنبلة يدوية. وضعها في جيبه وركض. ما إن خرج من الباب حتى سمع صوت رشقة نارية من بندقية آلية. ثم أخرى فثالثة فرابعة. إنها داخل البلدة. التجأ إلى الجدار. شاهد أشباحاً في نهاية الزقاق. صاح بهم: من أنتم. ردوا عليه برشقات الرصاص. انبطح أرضاً. تحسَّس جسده. لم يُصَبْ. إطلق من بندقيته طلقة خرساء. وثب إلى مكانٍ أكثر أماناً بين جدران حجرية، اشتدت حِدَّة الاشتباكات. تواصلت إلى أسماعه أصوات استغاثات نساء. خرجت امرأة إلى الزقاق تصيح، ذبحوا الأولاد بالحمام، ذبحوهم بالسكاكين. دخل إلى البيت الذي خرجت منه المرأة، في حين واصلت طريقها راكضة وهي تولول. شيخ طاعن في السن مذبوح من رقبته في على أرض المدخل ينازع النفس الأخير. رفع يده بتثاقل وأشار إليه أن يدخل إلى الحمام. وثب وضرب الباب فانفتح. أم تحضن ثلاثة أطفال مذبوحين وهي تحنو فوقهم، مذبوحة أيضاً. طفلتان لم ير وجههما لأنهما غرقا بالدماء. الطفل نظره معلق بسقف الحمام، وعيناه ترسمان رعباً خرافياً. شعره الأشقر مخضب بالدماء. خرج من البيث يتتبَّعُ صوتَ إطلاقِ النار. كاد يرمي ببندقيته التي لا تساعده في قتل المهاجمين. داهمته أحلام أشبه بالكوابيس. حلم برشاش من نوع "بي كي سي" وسلة من الطلقات في شريط معبأ. بجانبه صندوق من الرمانات اليدوية...
أفاق من حلمه على رشقات قريبة، انتقل من شارع لشارع. أحدهم يرابط على السطح. حذَّره من المسير في الأزقة وأشباح الموت يوزعونه على كل البيوت: انتبه لنفسك وادخل لبيتك. بيته بعيد... بعيد. شاهد شابا صغيرا يحمل بندقية، وبضعة ملثمين مسحلين يقولون له: سلم نفسك. رفض الغلام. صاح به: أطلق عليهم النار. عالج الصبي البندقية وشدَّ سبابته على الزناد، لم تنطلق الرصاصات منها. كانت في وضع الأمان. سحب القنبلة اليدوية الوحيدة التي يحملها. رماها بمهارة فسقطت بينهم وتطايرت لتخترق أجسادهم وينهارون على الأرض.
شرع صدره للريح وانطلق يدلف عبر الأبواب المشرعة، قتلى. جرحى. آثار همجية لكائنات تشبه البشر مرت من هنا.
أربع ساعات من الألم المتنقل، الاشتباكات تشتد ضراوة. هاتفه يرن ولا ينفك عن مواصلة الرنين. هو لا يرد، لكن يجب إطفاء صوت الخلوي كي لا يدل علي. ارتفعت أصوات الاستغاثات أكثر، ولعلع الرصاص اكثر... فأكثر. لماذا لا يتوجه إلى بيته قبل أن تصل الوحوش الآدمية إليه!
ما إن خرج حتى تلقى طلقة قناصة في الظهر، وقع بجانب صخرة. استل هاتفه الخلوي. أخذ لنفسه صورة (سيلفي) وسجل رسالة صوتية لزوجه يوصيها بالأولاد وبتسديد الديون المتراكمة عليه، ثم أسلم الروح. نها العاشرة تماماً موعد إقلاع طائرته من مطار دمشق الدولي. طارت روحه تاركة الجسد...
بعد اندحار هجوم وحوش الظلام تحت ضربات المقاومة الشرسة والنجدات القادمة من القرى التي لم تتعرض للهجوم، اقترب شباب المقاومة الذين يطاردون الوحوش. شاهد الرجال، رجلا مبتسماً ينام على الأرض. أشهروا بنادقهم في وجههم وصاحوا به: قم. لم يرد، بل واصل الابتسام. حركه أحدهم بفوهة البندقية.
كان يمسك هاتفه الخلوي وباليد الأخرى بندقية صيد. باردوة ضغط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليكم الصورة. والرسالة الصوتية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" يا عنود!.. يا عنود انا الحمد لله استشهدت اول واحد. شفت أيمن قدامي ... حشكت عليه ... شفتن قدام دار ناصر ابن منصور عبيقولوا: سلم حالك.
قلت له: قوِّس عليهم. ما عرفش يقوس. سحبت عليهن قنبلة وزتيتها عليهن ونعثتن نعث ... رجعوا صاوبوني بظهري ... الحمد لله ديري بالك ع الاولاد وخللي اللي إلو علينا مصاري يبري ذمتي ... خليهم يسامحوني ... بخاطرك يا عنود ... بخاطرك يا أديب ... بخاطرك يا لبيب ... بخاطرك يا سي... ... ...".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انقطع النفس. انقطع الكلام.
بقلم : داوود أبو شقرة
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء