مثقفونا والتقليد
تعقيبا على المنشور الرائع الذي قدّمته الأستاذة المحترمة، ميساء جرجس، و واستجابة للسؤال الذي صدّرت من خلاله همّا ووجعا، يؤلم أصحاب العقول والقلوب في منطقتنا؛ كانت هذه الكلمات للمشاركة:
لم يتجاوز مثقفونا ،للأسف، حدود التقليد والانبهار بالآخر، فلم ننطلق ،في عملية " النهوض"، من وعي صحيح للذات ومشاكلها، ولم يشذّ عن هذا حتى المحاولات الاصلاحية التجديدية التي توّجت مطلع ما سمّي بعصر النهضة العربية، واستمرّت في تداعياتها إلى اللحظة الراهنة. لم تلامس الجهود الفكرية والثقافية العمق الحقيقي لمشاكلنا ومعوّقاتنا الحضارية، ولم تتّسم بالتأصيل، فبقيت عند حدود الإجراءات الإسعافية التكتيكية.
لهذا كانت حالنا حال المستورد الذي لا يسعه سوى تقليد صاحب البضاعة. هذا بالنسبة لمن عوّلوا على الحداثة. وبالمقابل عاش دعاة الأصالة والاستقلال، الانغلاق والانكفاء. وبفعل هذه الثنائية عشنا تجاذبا واستقطابا انطلق من الأدلجة والتعصب المقيتين، كانت أجلى نتائجه، اجترار المشكلة، ومزيدا من القلق والتيه والضياع، تحت وطأة الشعارات والمناكفات!
لا ندّعي أنّنا من أصحاب أطروحات الحل، ولكنّ هذا لا يمنع من التذكير في بأمرين أساسيين، على المستوى المنهجي العام:
أولا: علينا أن نقرأ الآخر في سياقات تشكّل عقله، وهو ما ينبغي الانطلاق منه لتمييز الثابت والمتغير. وذلك لأنّ دراسة هذا النوع من القراءة، يطلعنا على التغيّرات والأفكار الناشئة مرحليا، والمرتبطة بخصوصيّات الحقل الاجتماعي والمعرفي الذي نشأ فيه فكر الآخر وتجربته.
فعلى سبيل المثال ،لا الحصر، وبحكم أن فكر الغرب هو المهيمن، في لحظة التردّي الحضاري التي عشناها، ونعيشها حتى الآن؛ لا يمكننا التنكّر لثورة الغرب العلمية، والتي نهضت في وجه المنهج التأملي، اللاهوتي الذي اعتمد في مقاربة الظواهر الكونية، حيث أقصى العقل الغربي ،في القرون الوسطى، السببية وروابطها القائمة في هذه الظواهر، فبدل الكشف عن أسبابها، تم ربطها "أرواحيا" بالسماء، دون مراعاة التراتبية والطولية في التأثيرات المتبادلة فيما بينها! ولكننا رغم ذلك، لابدّ وأن نقف حذرا أمام عقل الغرب في تبنّيه لتغوّل العلم، وإطلاق يده في بناء رؤية كلية للكون، لا يجدر بالعلم أن ينيها أصلا. علما بأن هذا الحذر، له مبرّراته الموضوعية، بعدما أثبتت المعطيات التاريخية والفكرية، أن إيكال هذه المهمّة للعلم، ليس سوى تطرّف، باتت آثاره وأبعاده تظهر بوضوح، فلم تبن "الفلسفات العلمية" على دراسات تأصيلية معرفية متكاملة! غاية الأمر أنها انساقت ،ولو جزئيا، وراء ردة فعل ساخنة، تشكّلت بفعل المقاربات اللاهوتية، وتبنّيها الفلسفة المدرسية ،المؤطّرة أساسا، بمبادئ ومنطلقات تحتاج إلى إعادة النظر فيها ،في أحسن الأحوال!
كما لا يمكننا تبنّي نظرة الغرب إلى الدين، وتعميمها على جميع الأديان؛ لأن طبيعة النظام الكنسي وبنيته في القرون الوسطى، لا تطابق في مبتنياتها وأسسها باقي الأديان بالضرورة، بغض النظر عن موقفنا من هذه الأديان ومدى قبولنا أو عدم قبولنا لها.
ومن الأمثلة أيضا، موقفنا من التأثير السلبي لأصنام الفكر التي حذّر منها (فرنسيس بيكون)، وتأييدنا لإعطائه الاستقراء العلمي مكانته المنهجية في العلوم؛ ولكنّنا نتحفّظ ،ويحقّ لنا ذلك، على موقفه من القياس (الاستنباط) العقلي.... ووو.. هذا بالرغم من أن ما ذكره (بيكون) حول أصنام الفكر، لم يكن بعيدا عن متناول أيدينا؛ فقد ذكر النصّ القرآني كل تلك الأصنام، بل زاد فيها تفصيلا وبلاغة.
ثانيا: وهو ما يتعلّق بذاتنا وعقليّتنا، فلا يخفى أنّ علينا العودة ،تحليليّا، إلى أرضيّتنا التي ننتمي إليها، والعمل على ذلك، وبكل جرأة، لإبقاء الإنساني والواقعي والتمسّك به؛ والإعراض عما دون ذلك، بعيدا عن التعصّب الديني، والاجتماعي، والسياسي... وضرورة مراجعة الثابت والمتغيّر، بما في ذلك ما نلقي عليه جلباب القداسة والتبجيل.
وأخيرا، دعوة لكلّ مثقف، أنّى انتمى: لا بدّ أن نوطّن أنفسنا ،منذ البداية، على قبول النتائج، مهما كانت، والانفتاح على الآخر... وهو ما تقتضيه الموضوعية والتجرّد؛ ركنا البحث العلمي الرّصين.
جمال صالح جزان


خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء