المعرفة الدينية وقابلية الاستدلال والنظر
........................................................................
لو استعرضنا النظريات التي حاولت تفسير الظاهرة الدينية، لا نجد نظرية تستطيع الصمود أمام النقد والدراسة العلمية؛ سواء نظرية الخوف، او نظرية الجهل، او.النظرية الطوطمية لدوركهايم، او الماركسية... ولعل مايشير الى عدم الحسم هو اختلاف تلك النظريات فيما بيها... في الوقت الذي اكدت فيه الدراسات والابحاث الانثروبولوجية، فضلا عن الحفريات الاريكيولوجية على ان الدين لم يفارق امة من الامم، او جماعة، اوفئة قط!
لقد باتت القرائن المحتشدة تمثّل عبئا منطقيا لايمكن دحضه، على أولئك المصرّون على نشوء الدين من عوامل خارجة عن الفطرة الانسانية وجوهرها... بل اضطّر عقل الحداثة الى الاعتراف بما اسماه (التجربة الدينية)، اشارة الى ذلك الشعور المتجذّر في كينونة الانسان، ولعله ماجعله مصرّا على ذلك؛ تلك الأحداث لم يستطع تبريرها بالمقاييس العلمية المعتمدة...
ومحلّ الشاهد، انما يكمن في ذلك التساؤل الذي لا يعبأ بنا وبما نعتبره واقعيا؛ اذ نعيش مفارقة تقول: ماسرّ ظاهرة التديّن التي لا تنفكّ تعيش معنا، دون اكتراث بمتغيرات الزمان وتقلّب العصور؟!!
وهل يمكن لظاهرة نشأت بفعل عوامل تاريخية معينة، وظروف خاصّة زمكانيّا، ان تتجذّر في واقع الانسان بهذه الصورة... رغم ما تبلورت به من نماذج مشوّهة وسخيفة انعكست على حياته قسوة ومآسي، ضجّت بها كتب التاريخ وسجلّات الأمم والحضارات ؟؟!!
أغلب الظن، لن تمتلك ظاهرة ما امتلكه الدين، لو كانت تعاند عقل الإنسان ووجدانه... بل إنها ، وبفعل انطلاقها من اعماق الانسان وكينونته؛ أضحى الانسان قادرا على التمييز بين الفهم القاصر والتطبيق الخاطئ للدين، وبين الدين نفسه ومقومه الأساس الذي يدفعنا للتعلق بقدرة مطلقة تقف وراء الون كله...
ومن هنا، بات التمييز بين الدين ونصوصه الأصيلة من جهة، وبين ما هو خلاف ذلك؛ أمرا لايحتاج الكثير من العناء. بالرغم من الحملات الإعلامية والسياسية... التي تشنّ على الدين والفكر الديني...
لو عدنا إلى القرآن الكريم، وهو أبرز النصوص الدينية، وقمنا بقراءة موضوعية، سياقية مستوعبة... لن نجد كثير عناء في اكتشاف تعظيم دور العقل والتفكير المنطقي، فيه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، سأعرض بعض النصوص القرآنية التي تؤكّد هذه الحقيقة.
- وصف القرآن من لايستفيد من عقله وفكره بأنه شرّ الدواب: {إنّ شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لايعقلون}. الأنفال/22.
- وكذلك ذمّ الذين لايعقلون بقوله تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لايعقلون}. يونس/100.
- لم يعط الموقف، أو الرأي، أو السلوك... قيمة، إلا إذا كان خاصعا للتعقّل والبرهان: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. البقرة/111.
- جسدت مداليل بعض الآيات براهين واستدلالات عقلية؛ من قبيل: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. الأنبياء/22. ومن قبيل: {أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لايهدّي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون}. يونس/ 35. ومن قبيل: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لاترجعون}. المؤمنون/ 115.
- التنديد باتباع الظن، وضرورة اقتفاء العلم: {إن يتّبعون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون}. الأنعام/ 116. {ولاتقف ما ليس لك به علم}.الإسراء/ 36.
-ذمّ التقليد الأعمى: {وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. البقرة/170. {وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا}.الأحزاب/67.
- التحذير من اتباع الهوى والميول الشخصية: {إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس}.النجم /23. {ياداود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولاتتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}.ص /26.
- خطورة الجمود الفكري: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون}. الأعراف/ 179.
- الدعوة إلى التأمّل في الطبيعة والمخلوقات لمعرفة الصانع والغاية من الخلق: {إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب¤ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. آل عمران/211.
وغيرها من الموارد التي تثبت تمسك القرآن الكريم بقوة العقل التي منحها الله سبحانه للإنسان.
نعم، يبقى الكثير من الكلام في مناهج التفكير، وعلاقة العقل بالنقل؛ تلك المعادلة التي خاض فيها علماء المسلمين، واختلفوا فيها. فكان للمتكلمين رأيهم، وللفلاسفة رأيهم.. وضمن كل دائرة، تعدّدت الآراء والتصوّرات... إلا أنّ هذا الاختلاف، وما تبعه من تداعيات وآثار، اخترقها العامل السياسي، وحوّلها ،مستعينا بذهنية التعصّب، إلى أزمات وثغرات مؤلمة، أعاقت مسيرة العقل والتفكير والحوار... كلّ ذلك لايعفينا من مراجعة موضوعية حياديّة للنص والمنظومة الدينية، علّنا نحظى بآراء وأفكار تساهم في تغيير الرؤى والمواقف، وتفتح الأبواب لحوار بنّاء، نلتقي عليه جميعا.
جمال صالح جزان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء