سجال العقل والنص وغياب البوصلة
----------------------------------------------
تعرّضنا سابقا للمعرفة الدينية وقابليّتها للاستدلال، واستعرضنا العديد من النصوص التي تؤسس لمنطلقات التفكير المنطقي والموضوعي في الفكر الديني، بعيدا عن الإيمان العاطفي والساذج، الذي يعتبر أرضا خصبة للتشدّد والانغلاق الدوغمائي...
إلا أنّ مقاربتنا تلك، لم تتعدّ حدود الأسس والمبادئ النظريّة، وبالتالي، ليس من الضروري أنها طبقت في الممارسة العملية، واستطاع العقل المتديّن استيعابها وامتثالها فعلا.
من هنا، يمكن الحديث عن تصوّرات ومرتكزات متعدّدة، ووجهات نظر مختلفة حول علاقة العقل بالنصّ، أو كما يطلق عليها علاقة (النقل والعقل). علما بأنّ هذا الاختلاف لم يقتصر على ديانة بعينها، فلقد كان للسجال القائم بين العقل والنقل مساحة واسعة لدى أتباع جميع الديانات، وعلى رأسها الديانات السماوية الثلاث؛ اليهودية؛ والمسيحية؛ والإسلام.
وعلى الصعيد الإسلامي، فلقد اختلفت التياّرات والمذاهب الإسلامية في مسألة دور العقل ومساحة تأثيره في إثبات العقائد والكشف عن حكم وفلسفة التشريعات الإيمانية، إلى حد الانقسام الحادّ فيما بينها؛ الأمر الذي خلق جملة من المشاكل وصلت إلى حدّ التكفير والإخراج من الملّة!! وكان وراء هذا الانقسام العديد من العوامل؛ منها السياسي؛ ومنها الاجتماعي؛ ومنها الفكري... تفاعلت جميعا في إيصال الأمور إلى هذا المستوى.
إلا أنّ العامل النوعي الأبرز في هذا الصدد، تمثّل بالصدمة الحضارية التي تلقّاها العقل المسلم في القرن الثالث الهجري؛ حيث فتحت الأبواب لترجمة الفلسفة اليونانيّة، فاصطدم العقل الإيماني الغضّ بمقولات تجريدية نظريّة، تختلف في طبيعة خطابها وبنيتها عن المقولات الدينية، التي تواكب التركيبة الحسية والعاطفية والعقلية للإنسان بصورة متوازنة، وتقوم على خطاب يتوخّى الاستنهاض العام تدريجيّا، دون أن يعني هذا إغلاق الأبواب أمام العقل وولوجه في مكنون الظواهر؛ الطبيعية منها؛ والميتافيزيقيّة.
والجدير بالذكر أن العقل المسلم قبل عصر الترجمة، كان يعيش حالة من الاضطراب والتخبّط حول الكثير من المقولات العقدية الكلامية؛ كقضيّة القضاء والقدر، والإمامة، ومرتكب الكبيرة... وما أحدثه ذلك من اختلافات ونزاعات، تم استثمارها سياسيّا على الساحة الإسلامية. هذا الواقع، أفقد العقل المسلم المرجعية الرصينة التي تقيه خطر فقدان التوازن، والاضطراب، في مرحلة لم تكن لتتجذّر لديه بعد القدرة على الجمع بين المنقول والمعقول.
وبالمناسبة، فإن مقولة إيكال الأمر بعد النبيّ (ص) لشخص مسدّد، والإيمان بعصمته وضرورة التفاف المسلمين حوله؛ وأقصد بذلك (الإمامة) التي يعتقد بها فريق واسع من المسلمين، إنما تنطلق ،في فلسفتها، من هذه الحقيقة، بحيث يكون الإمام متابعا لخطّ الرسالة لإنضاج الآفاق العقليّة للنصّ، ودرء خطر الانحراف عن سمت الرسالة الواقعي...
لقد كان لهذه البيئة التي حاقت بالعقل الديني الإسلامي آنذاك آثارا سلبية بالغة، أبعدته عن بوصلة التفكير المنطقي السليم، وأجواء الحوار البنّاء، ولاسيّما بعد مساهمة باقي العوامل؛ وعلى رأسها العامل السياسي المشبع بالنزوع الفئويّ الضيّق...
كلّ هذا، أدّى إلى طمس الطابع الاستدلالي العقلي إلى حدّ بعيد نسبيّا في المنظومة الدينية، وساهم في تكريس ما يمكن تسميته ب (الانتماء الإيماني الساذج)، وما يمثّله هذا الانتماء من أرض خصبة للأوبئة المعرفيّة، والفكرية، والمسلكية.
وللحديث بقية إن شاء الله.
جمال صالح جزان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء