البروز الفردي والنهوض المجتمعي
.............................................................................
بات من الواضح أن هذا الشرق الكبير يعاني منذ قرون من الفردية بالمعنى التفردي والتسلطي، وهو ما يمكن ان نسميه بالبروز او التورم الفردي؛ حيث تحكم الرغبة بالسيطرة الكاملة غير المنقوصة على الأمور العلاقات الفوقية في المجتمع، وذلك في جميع مناح الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، فيصبح الهاجس الأول هو الرغبة في إثبات الذات التي سرعان ما تتحول إلى رغبة ملحة في الظهور وإقصاء المنافسين خصوصا الموهوبين منهم، فتتحول العلاقات من علاقات بناء وتوافق من أجل الدفع بالمؤسسة قدما للإمام إلى علاقات تنافس وتضاد شخصي تؤدي إلى تدمير أحد الطرفين (الأضعف غالبا) ولو كان على صواب أو كان مبدعا، وتصبح محصلة الأفعال بمجملها هدامة للمؤسسة ومن ثم المجتمع.
في الغرب تجاوزوا الفردية بالمعنى التسلطي (مع وجود بوادر قوية على الفساد والانحراف مؤخرا) لصالح تشجيع الفردية بالمعنى الإبداعي التي هي أقرب إلى مصطلح التفرد. هناك يصب الجهد الفردي في حصيلة جهود جماعية تمثل نهضة المؤسسة؛ التي هي بدورها جزء من نهضة أشمل هي نهضة المجتمع.
هنا يصبح نهوض المجتمع هما ميدانيا على مستوى الأفراد والجماعات، وبه تستطيع أن تفسر الكثير من الظواهر المثيرة في نظرنا، على سبيل المثال لا الحصر، كيف يحافظون على نظافة شوارعهم، كيف يحترمون نظام الطوابير؛ ويمتنعون عن القيام بأي سابقة فردية قد تهدد سياق النهوض العام من تشدد أو عنصرية أو اجحاف بحق المرأة.
بذلك تصبح الرؤية المجتمعية والشعور المجتمعي فطرة طبيعية لاشعاراتية أو بوقية كونها تنتقل للأطفال من الابوين، ومن المجتمع إلى الوافد بالعدوى الثقافية أو التأثر الثقافي.
وبذات المعادلة إنما بالاتجاه المعاكس نستطيع أن نفسر فشل كثير من المبادرات الفردية لدينا في النهوض، فنسمع مثلا كيف أن فلان من الناس في المؤسسة (س) وقف موقفا مشرفا في وجه الفساد أو البيروقراطية أو الواسطة لكنه بالمحصلة فشل في مساعيه -التي تقترب من سمة البطولة- أو أن آخر أبعد عن موقعه عندما ظهرت لديه بوادر إصلاح أو إبداع، تظهر مسؤوليه بمظهر المتأخرين عن المواكبة.
أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، كلها تدل على أن محاولات النهوض الفردي مهما كانت مخلصة وجادة غير مجدية إذ ستصطدم بالف عائق وجدار من قبل الموروث المؤسساتي والمجتمعي الفاسد، وأن لا حل ناجع إلا بالنهوض المجتمعي العام على شكل إرادة شعبية قوية و واعية لأهمية المبادرة والمحاسبة والانطلاق من جديد.
علينا أن ندرك جميعا أن البروز الفردي لا يورث نهضة ولا يؤدي إلى ارتقاء مجتمع، ما الفائدة التي ترجى من خلاص فرد واحد في الأسرة، في حين يعاني باقي أفراد الأسرة من الفشل والخواء.
وفي ذات السياق وكمثال على ذلك لكن على مستوى دول رفضت اليابان في الشرق الأقصى أن تنهض بمفردها بل عملت على الارتقاء بجيرانها وفق ما عرف لاحقا برؤية (سرب الاوز) لتظهر على أثرها النمور الآسيوية السبعة (تايوان، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، سنغافورة، ماليزيا، إندونيسيا، الفلبين).
أخيرا يمكننا القول أنه معادلة البروز الفردي تعاكس وتضاد معادلة النهوض المجتمعي، فكلما سادت الأولى بثقافتها وبرامجها انحدرت الثانية الى الحضيض؛ والرائع في الأمر أن العكس ليس صحيحا لأن النهوض المجتمعي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ارتقاء الأفراد معنويا ومعرفيا وماديا.
وبهذا؛ فإن التفكير الفردي بما فيه التفكير المادي والمصلحي خارج إطار التفكير الجمعي لن يقودنا إلا لمزيد من الخيبات والويلات، لقد آن الأوان أن نجرب طريقة أخرى في تفكيرنا وحياتنا بعد أن أثبتت الأولى فشلها الذريع.
علي حسين الحموي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء