pregnancy

الأخلاق وأزمة تغييبها عن الحالة الاجتماعية





الأخلاق وأزمة تغييبها عن الحالة الاجتماعية

......................................................................................

لايزال الإنسان إلى يومنا هذا يعيش ارتباطا وجدانيا عميقا بالقيم، وهو مايدعم صحّة النظرية التي ترجع الأخلاق الحميدة إلى الفطرة الإنسانية... إلا أنّ هذا الارتباط بات ينزوي في قوقعة الانفعال العاطفي، لتقصى الأخلاق الحسنة ،تدريجيّا، عن ساحة السلوك والعلاقات الإنسانية!!
  فلم يعد لدينا حرج أو خشية ،في أيّامنا هذه، من التنكّر للأخلاق على المستوى العمليّ، وإن كنّا نتغنّى بها نظريّا!! وحجّتنا في ذلك هي استحالة الالتزام بها؛ لأنّ الحياة بتعقيداتها ومتطلّباتها لاتعترف بعلاقات تقوم على الخلق الحسن و"سذاجته"!!
 وللعلم، فإنّ جفاءنا هذا للقيم، يزداد في حدّته، كلّما اتّسعت دائرة العلاقات وتشعّبت، وابتعدت عن الخليّة الأولى والحاضنة الأقرب لكلّ منّا.

▪ولو أردنا العمل على تشخيص العوامل التي تقف وراء هذه الظاهرة، فلايجدي نفعا إرجاعها إلى تشوّه المحتوى الداخليّ للإنسان، واستفحال عقلية التغوّل المادّي التي اكتسحت عالمنا؛ ذلك أنّ هذه الحال ،بحدّ ذاتها، ليست إلا نتيجة تتبع في تحقّقها وآثارها لأسباب أخرى ينبغي الكشف عنها.

ويبدو أنّ السبب الفكريّ والفلسفيّ، أو ما يمكن أن نطلق عليه (الأسس المعرفيّة والفلسفية) التي تشكّلت بنيتها على الفصل بين المكوّن القيمي الأخلاقيّ، من جهة، والمنظومة التشريعية التنظيميّة للحياة، من جهة أخرى؛ مثّلت القاعدة الصلبة والمستند الأقوى لهذه العقلية.

تلك الأسس التي تمخّض عنها عقل الحداثة وما بعدها في عمليّة تصدّيه لتصوّر الواقع وتشكيل منظومة الحياة، حيث تقوّمت المناهج والبنى النظريّة، بمعزل عن القيم الأخلاقية إلى حد بعيد!! ما أفقد النظم ،التي تكفّلت إدارة العلاقات وتنظيمها على كافّة الصعد، أهمّ المقوّمات الإنسانية وأقدسها.

 علما بأنّ هذا الفصل كان قد اكتسب "مشروعيته" تحت مسمّيات عدّة من قبيل: "الواقعية"، و"الإنتاج الحقيقيّ"، و"التقدّم"، و"الراحة في الحياة"، و"تحرير الإنسان من أيّ سلطة"، و...و...

انطلاقا من هذه العناوين وتبنّيها وفق نزعة حسّيّة مادّيّة للكون والعالم؛ لم يعد  للقضايا الماورائيّة (الميتافيزيقيّة) أيّ جدوى، وأضحى كل ما لايمكن تكميمه وقياسه، خلوا من القيمة المعرفيّة الواقعيّة!!

  ويرجع هذا إلى أنّ مسار الحركة الفلسفيّة المؤسّسة لرؤية الغرب للحياة والمصير الإنسانيّ، وبفعل ظروف متعدّدة، كان قد اختزل في عدّة مذاهب فلسفيّة؛ اتّفقت جميعها على عدم الاعتراف بقيمة القضايا الماورائية (الميتافيزيقية) والقضايا القيميّة (الإكسولوجيّة). حتى أنّنا لم نعد نجد مقاربة فلسفيّة للقضايا الأخلاقية، تستطيع تحصين بنائها  الأنطولوجيّ من خطر النسبيّة والاضطراب تحت وطأة طوارئ الحياة. سواء أكان ذلك بالتصريح المباشر ، أم بصورة غير مباشرة دون تبن صريح!!

وبهذا تقطّعت السبل بالأخلاق والمبادئ، وتركت فريسة سهلة للأهواء والأغراض الدنيئة، ومكائد الصراعات السياسيّة وأحابيلها، دون أدنى حصانة أو حماية. وليس لنا إلا الاطلاع على الدور الذي لعبه فكر (ميكافيللي) في كتابه الشهير (الأمير)، حينما عزل الأخلاق عن السياسة بذريعة الواقعيّة!!
نعم، يستثنى من ذلك التعاطف الشعوريّ  الذاتيّ والمزاجات الفردية،ّ التي لايتجاوز أثرها ،في أحسن الأحوال، حدود بعض مواقع السلوك الفرديّ.

قد يظنّ من يقرأ هذا الكلمات أنّ فيها تجنّ أو اتهام جزافيّ، إلا أنّه ليس عليه للخروج من دائرة هذا الظنّ، إلا مراجعة المذاهب الفلسفيّة التي تفرّدت بتشكيل العقل الغربي واتجاهاته، إثر مخاض عسير، وأبعدته عن التفكير الجدّي في قضايا (المابعد) و(الأخلاق)، وأسلمته إلى مصير تأويليّ (هرمينوطيقيّ)، لايؤمن بحقيقة ثابتة وراسخة، من خلال جعل التغيّرات المطّردة في الطبيعة المادّيّة التي يكشف عنها العلم في كلّ لحظة، الأساس والمنطلق في رؤيتها ومفهومها للعالم، ظنّا منها أنّ الوجود لايتعدّى حدود المرئيّ المحسوس!! 

ومن باب التذكير بهذه المذاهب نذكر: (الوضعيّة)، و(الوضعيّة المنطقيّة)، و(التحليليّة)، و(البراغماتيّة). ويضاف إليها (الماركسيّة) كذلك، فرغم دعوتها لتحقيق العدالة الإجتماعية، وإيمانها بحقائق ثابتة... إلا أنّها ،بمبادئها المادّية واعتبارها القيم من مفرزات الصراع الطبقيّ المادّي، الذي يمثّل البناء التحتيّ التأسيسيّ للقيم والفكر والدين؛ جعلت من القيم أثرا لامؤثرا، وسدّدت بهذا ضربة قاسية لغاياتها المنشودة!!  

▪وتكمن الطامّة الكبرى فيمن استورد هذه العقليّة، ولم يضعها في سياقها التاريخيّ والمعرفيّ والاجتماعي لتجريدها من خصوصيّات الحقل الذي نشأت ونمت فيه!! وأقصد بذلك ،بالطبع، كل من يدور في فلك "الحضارة الغربية" -أو أرغم على الدوران في فلكها- ومن بين هؤلاء العرب ومعظم الشعوب الاسلامية بالتأكيد.
 ولعلّ الحال هنا تزداد سوءا ومأساويّة. فإذا كان الغرب يستطيع أن يعيش شيئا من الانسجام التاريخي والإجتماعي فيما هو عليه اليوم، بحكم اقتياته على تجربته الخاصة التي عاشها وصنعها؛ فإنّ من أخذ الوصفة جاهزة معلّبة؛ لن ينال إلا التخبّط والتبعيّة. 
وأمّا عن تبعيّتنا نحن (العرب والمسلمون)، فيا ليتها!! كانت تبعيّة اعتمدت تقانة الغرب وإنجازاته القانونيّة والتنظيميّة والخدميّة، أسوة ببعض الدول التي حقّقت تقدّما ونهضة مستقلّة نسبيّا؛ كاليابان وكوريا الجنوبية... وغيرها. ولكنها ،للأسف، مضت على إيقاع التشنّج والانفعال والانبهار، فلم يتجاوز دورنا دائرة تزويد العالم بالطاقة، والأزمات وما تمثّله من ذرائع للتدخّل العسكريّ والسياسيّ، فكان هذا حالنا!!

▪لاشكّ بأنّ القطيعة ،أو اتّساع الهوّة، بين القيميّ والوجوديّ الأنطلوجيّ من جهة، وبين العلائقيّ(الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، التربوي، القانوني...) من جهة أخرى؛ أمر تأباه فلسفة التاريخ، التي تعلن وتصرّح عبر سننها وثوابتها، بالانحطاط والانهيار الحضاريّ عاقبة له، وإن طالت السنين والأزمان؛ ذلك أنّ الإنسان لايمكن أن يحيا ويحقّق رسالته الساميّة ومبادءها الكبرى، بالاعتماد على بيئة اجتماعيّة تجافي القيم والأخلاق الحسنة!! وإذعان الإنسان وقبوله بهذا الجفاء، سيجعله في عداد سائر المخلوقات، ولن يميّزه عنها، في الوقت الذي زوّد فيه بالعقل والإرادة، خدمة لروحه الوثّابة نحو اللامحدود. 

 يقول تعالى في كتابه العزيز مجلّيا هذه العاقبة وحقيقتها: {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون} (الحج/47). 
فالآية إذ تتنبّأ بالنتيجة الحتميّة الوخيمة لمن يترك مبادئ الحقّ وقيمه؛ تشير ،فضلا عن ذلك، إلى طول الوقت نسبيّا، والتأجيل المتطاول لمصائر الأمم المستخفّة بالقيم  - وهو ما يوهمنا أنّ هذه الأمم تمتلك حضارة ومنهجا أصيلا، طالما أنّها قويّة ومتماسكة كما يظهر لنا-  لتقول لنا (الآية): إنّكم ترون هذا مديدا بناء على زمنكم الأرضيّ، ولكنّه في مقاييس الزمن الكوني ومدياته الكبرى، قصير جدّا.
 وهذا ما أيّدته النظرية النسبيّة، التي برهنت -مع غيرها من النظريات والإكتشافات العلميّة- أنّ العقل الغربيّ أبدع في المجال العلميّ وحقّق نتائج باهرة، بل إنّنا نقول إنّه انطلق من نوايا فطرية نقيّة عندما أراد التحرّر من أغلال العصر الوسيط، لكنه ،للأسف،ّ ارتهن للصدمة التي تلقّاها مع أفول هذا العصر، فما كان منه ،بفعل هذه الصدمة، إلا أن نحّى القيم و الحقائق الماورائيّة عن ساحة الأسس المعرفيّة تدريجيّا، ليترك أعظم وأهمّ ما يمتاز به الإنسان، رهينة المزاج و الميول الذاتية، تحت ذريعة الحرص على "الحريّة الفرديّة" !!

جمال صالح جزان
شكرا لتعليقك