pregnancy

رهاب شاعر ..مقطع للأديب حسان الساروت




رهاب شاعر ..مقطع
.......................................................................................

هذا  المفطع من قصتي (رِهابُ شاعر) وهي من الحزء الثالث من روايتي (الآن وضعت الحرب أوزارها)وتحكي قصة الحرب السورية ببعض مظاهرها: 
كان الشاعر  يعتقد نفسَه أنّه ربّما أصيبَ برهابٍ قادمٍ من عصور ما قبل فجر التاريخ ومن دهاليز الظلام , سينتزع هذا القادمُ من الحجر استقراره ومن الشجرِ لِحاءَه وها هو ينتزعُ نفسَه من أوتادها فياله من مرضٍ ... يستأصلُ شجاعة النفس ويكسرُ شوكتها, ويجعلُ دمَه يهربُ مذعوراً من شرايينِه.
اذاً فهو في قرارة نفسه مصابٌ بداء الرّهاب, لكنّه طمأنَ نفسَه القلقة بأنّه عدوّ مؤقّت سيزول بزوال مسبّباتِه, فالظلام سينجلي عن النهار وسيأخذ معه الملثّمين الّذين يحملون سلاحهم بديلاً عن بطاقتهم الشخصيّة للتعريف عن أنفسهم, أمام شخص الضحيّة, بكلّ أريحيّة وقد يُكرمونه فلا يسلبونه غير ماله, وقد يسلخون مع المال كرامته. وفي غالب الاحيان قد ينسلون روحه للأبد.فهؤلاء سبب رهابه وليست حالة الحرب, بل لقد استغلّوها ليصيدوا ضحاياهم في مائها العكر.
ها هو يتمنّى لو أنّه أصيب ب(الزهايمر)فيُنسيه انتماءه وانتسابه وهوالآن يحسُد أهلَ الكهف الكرام على نومهم الطويل فقد أفاقوا من سباتهم ليروا دنيا مغايرةً لدنياهم.
هكذا كان الشاعرُ يتساءل بينه وبين نفسه في طريق عودته للبلدة ثمّ عاد للتساؤل مرّة أخرى, وفي أيّ قاموسٍ سيُخرجُ تعريفاً للرهابِ وفي أيّ فكر فلسفيّ أو طبّ نفسيّ سيصل لعلاج له,كان الطريقُ خالياُ الّا من بعض العائدين الوجلين المسرعين مخافة اختطافهم  وهو اذ يراهم يشعر بالأمان ولا سيما أنهم مصابون بذات رهابه كما يعتقد.
تذكّر أنّ هذا الدرب كان منذ سنتين فقط درباً لشبّان وفتيات البلدة يترنمون بترانيم الهوى والشوق وهم يمشون عليه. ثمّ عادت به الذكرى الى عشرين سنةٍ فائتة, فتذكّر كيف هاجرَ زميلُه في العمل الى (كندا) وعمل كمهندسٍ زراعيّ هناك واكتسب مع زوجته وولده الجنسيّة بعد فترة وهو آنذاك رغب بترك عمله الوظيفيّ لكنّ كرهه للغربة ومحبّته للأرض التي نما فيها وكونه كان يعتقدُ امكانيّة تحسّن وضعه المعيشيّ وقلّة المال الكافي لمثل هذه المغامرة كانوا جميعاً من العوامل التي ردعتْه عن الهجرة.لكنّه وهو في هذه الظروف يتمنّى لو يسكنُ في أقاصي الكون بعيداً عن البشر.هو قد وصل لقناعةٍ هذه الأيام بأنّ الوطن هو حيثُ الأمان والرعاية والخير لا حيث تحتاجُ العينُ لحارس تنامُ قريرةً هانئةً بنوبةِ حراستٍه فقط.
بينما هو غارقٌ في أفكاره وبينما هو يمتطي درّاجتَه الناريّة التي تهدرُ وكأنها تلهث هاربة به على الطريق الزراعي خرجَ له فجأةً من جانب منه كلبٌ شاردٌ أخذ وهو ينبحُ يطاردُ الدرّاجة التي اهتزّت بصاحبها بحالة لا شعوريّة, هنا عاد الشاعر الى واقعِه وكأنّه عصفورٌ سقطَت على ريشه قطرات الندى في صباح بارد فجفلَ, تمهّلت الدراجة قليلاً فابتعد الكلب .هنا قال في نفسه أليس من مالك لهذا الكلب فيردعه أم أنّ اطلاقه أهون بكثير من اعادة ربطه.
أوشكَ الظلامُ أن يُخيّم وها هو يمرُّ في طريقه بالأبنية السكنية في أطراف البلدة 
فاسترخى بارتياح على ظهر الدرّاجة فقد وصل الى ما اعتبرَه الى حينٍ برَّ الأمان وتلفّتَ حوله ليخطف نظراتٍ عابرة في وجوه شاحبة لبعض المارّة من الّذين يقاسمونه ذات الهمّ..
في بيته استراح الشاعر قليلاً وشرب (فنجان قهوته) الليليّ واعتزلَ عائلتَه في زاويةٍ يُفضّلُها في البيت وشرع ينظمُ قصيدةً كانت لروحه عزاءاً وسلوى يقولُ فيها:
سِرْتُ بدربي كـالقَطـا أجْفَـلُ........ضِقْتُ بِفِكري فهو لا يُحْمَلُ
ذكرى من الأمسِ غَزَتْ خاطِري.......كانت بثوْبِ المُرْتجى ترْفُلُ
فَأَعْقَبَتْها نَكْسَـةٌ .... عندمــا ........مَـرَّغَ أنفيْ واقعي الأرذلُ
زرعْتُ في أمسي بُذورَ المُنى....... عند القِطافِ خانَني المِنْجَلُ
كطامِعٍ بالنبـعِ... لكــنْ .. بِـهِ ....... صخرٌ قَسَا يعيـا و لا يَنهـلُ
اِنْ بَلَّ فيه الشّـفَتَينِ الندى ......... عَوَّضَ عَمَّا لم يعُدْ يأْمَـلُ
طاردَني كـلبٌ جرَى نابِحـاً ......... فلم أعُدْ عن حالتي أَذْهَلُ
ما هابَ في نباحِه .. شـاعراً ........ مَرَّ وفيـه ..الهمُّ مُسْتفْحِلُ
قد هَرَّني فاصطَكَّ عظمي فاِنْ...... عَضَّ وآذى فهـو لا يُسْـأَلُ
اِنْ أُشْهِرِ اليَراعَ .... كيْ ينثَنيْ....... يخالُه كالعظمِ .... قد يُأكَلُ
يا لِزمـانٍ ناسُـــهُ .... بَجَّلَـتْ ...... .. مَنْ كان من أفعالِهِ تخجَلُ
اِنْ بَرقَت عينُهُ مـن مَكْرِهـا ........ قالوا: سَنا النجمُ وما يأْفَلُ
واِنْ يُزمجرْ شَــهوةُ ثـغْـرُهُ ......... قالوا: له طابَ لكَ المأكلُ
مشربُهُ سِحْتٌ عظيمُ القَذى...... باهـَوْا بــِه ثمَّ لــه حلَّلـوا
ثمّ اذا مــَاتَ نَعَـواْ روحَـه ......... ولم تكُنْ في كُرْههمْ تبْخَلُ
هم في نفاقٍ صارَ وُعّاظُهمْ ...... أعلمُهم وعظاً هــو الأجهلً
من خُرْمِ اِبْرةٍ يرَوْنَ ...الدُنى ...... بالصّوتِ صالوا وهمُ الأسفلُ
يا ويحهم قد ركِبُوا رأسـهم ......... حتّى اختفى مجدُهمُ الأوَّلُ
في الدّرَك الأسفلِ هم في الدنى
خالوا بأنّهم بهـا الأمْثـلُ
ما عزَّهمْ مالٌ وهم مثلمــا
حامِلُ أسْفارٍ ولا يعقلُ
أفضلُهُمْ اِنْ سادَ خيرَ الورى
أفْسَدَهُ ورأيُهُ أحْوَلُ
كالعَفَنِ الأسْودِ في حِنْطـةٍ
في النيلِ من سُنْبلةٍ يشْمُلُ 
أقْنَعْتُ نفسي برِهابٍ غَزا
معْقَلَها في لُجِّها يُوغِـلُ
تصْطكُّ أسناني لِذكْرٍ لــه
فكيفَ وهو المُدْبِرُ المُقْبِلُ 
بـِـهِ أواسيها اذا لــمْ يُفِدْ
رُشْـدٌ بِقومٍ جُلُّهُـمْ يَطبُـلُ

الشاعر حسان الساروت
شكرا لتعليقك