pregnancy

التأصيل وحريّة التفكير




التأصيل وحريّة التفكير
.......................................................................................

مامن أحد  يستطيع الاستغناء عن المعلومات وغزارتها في التحصيل المعرفيّ والعلميّ؛ فلا معرفة ولاعلم بدون كمّ وعديد. بل غالبا ماتتبلور موضوعات البحث والدراسة انطلاقا من الجزئيّات والمعلومات التفصيليّة المتناثرة.

 لكنّ الكثرة والعدديد، تبقى بلاجدوى، إذا ما تمّ النظر إليها وتوظيفها بما هي متناثرة لاينظمها عقد ولايربطها رابط. كما لاجدوى ترتجى منها إذا ما تم ربطها مجموعات، واقتطاعها جزرا منفصلة عن أصولها ومبادئها وسياقاتها العامّة...

كثير من نقاشاتنا ،بل جلّها للأسف، تقوم على الاقتطاع والتجزئة في أحسن الأحوال. ولهذا فإنّها بدلا من أن توصلنا إلى مزيد من القواسم المشتركة وسواء الكلمة الواقعيّة؛ نراها تزيدنا تشرذما وابتعادا عن الغاية التي انطلقنا لأجلها في "الحوار"!

إنّ أولى سمات الفكر الواقعيّ المثمر؛ أن يكون أصيلا. حيث العودة إلى الجذور الصلبة والمشتركة؛ أي (وصل) أفكارنا النظريّة بالبديهيّات، باعتبارها أوليّات لابدّ وأن تنطلق منها عملية التفكير بمعناها الإنسانيّ العام. فضلا عن ربط كل قول أو معلومة بمنشئها ومحيطها، ليتسنّى مقاربتها وبحثها انطلاقا من الحقل المعرفيّ الذي انطلقت منه. فضلا عن العديد من الخطوات  التي تتقوّم بها أقدس خصائص الإنسان؛ أقصد التعقّل والتفكير...

 ولايخفى أنّ مثل هذا العمل معاييره وأسسه التي تعنى بها مجموعة من العلوم الفلسفية(نظرية المعرفة، المنطق، مناهج البحث...)، لسنا بوارد التطرّق لها في هذا المقام، إلا أنّ هذا لايمنعنا من ذكر أهمّ الثمار التي نجنيها من عمليّة التأصيل:

1- تجنّب تبعات الغرق في مستنقع السجالات التفصيليّة واستطراداتها، وضمان الحصول على نظام متماسك لأفكارنا... علما بأنّ قيمة هذه الثمرة تشتدّ وتزداد إلحاحا في عصرنا الحالي الذي تتوالد فيه المعارف والمعلومات على محراك متوالية هندسيّة خياليّة الأرقام، جعلت من التشتّت والتشظّي مشكلة في واقعنا المعرقيّ والنظريّ.
2- فتح الأبواب لإعادة النظر في مسلّماتنا، ووضعها على محكّ البحث والتقويم، للتأكّد من صحّتها وثباتها؛ إذ لعلّنا عوّلنا على متغيّر اعتقدنا أنّه من الثوابت؛ أو لعلّنا استأنسنا بصحة مقولة لا تمتلك من الصحة ما كنّا نظنّ، حيث لايشفع للفكرة أو التصوّر مجرّد ارتكازه في الأذهان والأعراف على امتداد الزمن، ما لم يكن واقعيّا رصينا في طبعه وبنيته.

وللعلم، فإنّه لايستثنى من عمل التأصيل هذا؛ اتجاه؛ أو تيّار؛ أو أيديولوجيا؛ أوفلسفة؛ بل أيّ عقيدة أو دين، لأنّ الأنبياء والرسل(ص) ،وكل من ينشد الحقيقة، كانوا قد وضعوا في أعلى سلّم أولويّاتهم، تحرير العقول والقلوب من كل ما يعيق الفطرة والأصالة الإنسانيين.

لايمكن أن ننكر دور الوافد والمتراكم من المعارف والأفكار والمناهج، لكنه لابدّ وأن يوضع في مسار (استلهاميّ تفاعليّ) يرجعه إلى الأصول والأسس، لتفادي التبعيّة والتقليد ، والتحرّر ،في الوقت نفسه، من التحجّر والانغلاف.

لاشكّ أنّ مثل هذه  العودة تمثّل أولى خطوات التنوير وأساسها... فإمّا أن نمتلك الجرأة، أو نبقى نصرخ بلاجدوى.

جمال صالح جزان
شكرا لتعليقك