مبارزة ما بين الفرشاة و القلم و السيف
......................................................................................
¤ ثمّة حضارات اشتغلت على جماليات خطّها، منها " الحضارة العربية " التي التفتت إلى إعلاء شأن [ الحرف العربيّ ] كبديل من الرسم المعلّق، وخصوصاً بعد أن اعتبر العرب « أنّ رسم الوجوه والأشخاص ونحتها لا يخلو من تحريم ». وهذا في أيّ حال على نقيض ما قال به أحد أئمة النهضة في مصر " محمد عبده " الذي رأى في :
« تحريم الرسم ونحت التماثيل خسارة حضارية وفنية لحقت بالعرب » لأنّ المسلمين غير العرب من فرس وأتراك وهنود وغيرهم من أعراق لم تكن نظرتهم إلى الرسم والنحت متماهية أو شبيهة بنظرة العرب الإقصائيّة.
* هناك حضارة أخرى رفعت ( فنّ الخطّ والكتابة ) إلى مقام لم تصله أي حضارة أخرى، واقصد بذلك " الحضارة الصينية " وسوف أحكي حكاية واقعيّة من تراث هذه الحضارة العريقة تظهر مدى ما بلغته النظرة الصينية إلى الخطّ من رقيّ إنسانيّ نبيل غير متوفّر للأسف في أزمنتنا الراهنة.
إنّ الكتابة الصينيّة امتازت على امتداد تاريخها بشيء لم تتميزْ به أيّ حضارة أخرى وهو استخدامها الفرشاة نفسها للكتابة وللرسم بخلاف الحضارة الغربية مثلاً ، التي ميّزت بين أدوات الكتابة وأدوات الرسم. والخطّاط الصينيّ كان في الوقت نفسه رسّاماً أو شاعراً أي أنّ اهتمامه انصبّ على اللغة من حيث هي روح وعلى الخطّ من حيث هو جسد حاضن لهذه الروح. ولعلّ هذا هو السبب الذي برّر التعايش الجماليّ والسلميّ بين " الكلمة والصورة " على صفحة الكتاب الواحدة في الصين.
ما يجسّد القيمة العليا للكتابة هو ذلك التقليد الذي كان معمولاً به في الصين القديمة، وهو تقليد راقٍ، حضاريّ « يقلّص من سفك الدم والأرواح إذ يجعل من سفك الحبر مجازاً يقوم مقام سفك الدماء »
في شعرنا العربيّ القديم تنافس شديد بين " أهل القلم وأهل السيف ". والقصائد والنصوص النثرية التي تقوم على المناظرة والمفاضلة بين السيف والقلم كثيرة وممتعة لأنّها تعبّر عن وجهة نظر العرب في ذلك الوقت إلى القيمة الرمزية لكلّ من السيف والقلم.
إلاّ أنّ هذا التنافس بين السيف والقلم لم يكن موجوداً في الصين لأنّ الفارس لم يكن بمقدوره الحصول، رسمياً، على لقب فارس إلا بعد امتحان خطّي ، فضلاً أيضا عن امتحان ثقافيّّ ومفهوم ألـ "ماندرين" أو "الموظّف المثقّف" في الصين يستحقّ مقالاً خاصاً، ولا مجال لذكره هنا بالتفصيل. إنّ مهارة الفارس الحربية لا تؤخذ بعين الاعتبار إلاّ بعد اجتيازه لامتحان الخطّ وليس المقصود بالامتحان معرفة الكتابة أي عدم الأمية وحسب، وإنما المقصود به إتقان فنّ الخطّ أي أنه كان من المستحيل أن تجد فارساً لا يبرع في فنّ الخطّ.
* ما هي النتيجة التي أفرزتها علاقة الفروسيّة بالخطّ ؟ وقد يقول قائل ما علاقة القوة بفنّ الخط ّ؟ ولكنّه سؤال مطعون فيه إذ بين السيف والفرشاة أكثر من وجه شبه وأكثر من صلة رحم.
« إنّ الفرشاة تدريب عضليّ ودرس في اليقظة والتركيز وضبط الأعصاب حتى لا يتمرّد الحبر السيّال على الأصابع » وهذه شروط لا بدّ من توفّرها في أي معركة. فالأهوج لن يكون خطّه أكثر من خربشة دجاج، وانتصاره في حال تحقّقه لن يكون أفضل حالاً من قطعة ثلج في الصحراء اللاهبة.
* كيف كانت تتمّ المبارزة بين الفرسان ؟ في الصين هناك طريقتان :
- الأولى وهي المعهودة، المعروفة التي يستخدم فيها السلاح ثمّ تنتهي باستسلام أو موت احد الفرسان. وموت أحد الطرفين هو، عمليا، خسارة أو هدر لطاقة كان يمكن أن تستثمر ويستفاد منها. والعقل يفرض على المرء أن لا يخسر، فما الحلّ إذاً ؟ كيف يربح فارس من غير أن يخوض معركة أو مبارزة. ألا تقول الحكمة الصينية الواردة في كتاب " فنّ الحرب" لكبير الاستراتيجيين وأقدمهم {"صن تزه" } أنه من الأفضل أن يربح المرء المعركة حتى قبل خوضها ؟ كيف يربح من غير أن يحارب ؟ ليس في الأمر أحجية بقدر ما فيه من المهارة والذكاء.
لم اعرف ابتكار طريقة لإعلان الانتصار من قبل أن يسلّ سيف من غمده شبيهة بطريقة الصينيين القدامى الثانية.
- كان الحَكَم الذي يفصل بين المتبارزين أو المسؤول عن إعلان نتيجة المبارزة يقوم بتقديم ورقة وفرشاة ومحبرة لكلّ فارس. ويطلب من كلّ واحد منهما أن يكتب الكلمة نفسها. ما علاقة الكتابة بالانتصار ؟ كان الفارس الذي ينتصر بالمبارزة هو الذي يتقن جماليّاً ونحويّاً - وللفنّ نَحْوه وصرفه - كتابة الكلمة المحددة. لم يكن في الأمر ظلم لأيّ طرف، لأنه كان من المعروف أنّ مهارة الفارس في حسن استخدام السلاح في وزن مهارة استخدامه لفرشاة الكتابة.
«« ولا ريب في أنّ سفك دم الأقلام خير، في النهاية، من سفك دم الأنام ! »»
د . بلال عبد الهادي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء