عقبات في طريق التفكير السليم
.......................................................................................
قلة قليلة من الناس هم الذين يستدلون استدلالاً سليمًا، فيكون تفكيرهم في حل المشكلات واتخاذ القرارات موضوعيًا لا ذاتيًا، واقعيًا لا خياليًا، منطقيًا يخلو من التناقض. فهناك عوائق شتى مختلفة تحول بينهم الكثير من الناس وبين الاستدلال السليم، منها ما يرجع إلى قلة المعلومات، ومنها ما يرجع إلى طريقة الاستدلال، على أن أهم هذه العوامل المعوِّقة هى عوامل انفعالية وعاطفية، منها على سبيل المثال: «عدم كفاية المعلومات» فالمرء لا يستطيع القيام بحل مشكلة ما دون أن تكون لديه المعلومات الضرورية المتعلقة بموضوع المشكلة. فليس من الممكن، مثلاً، حل مسألة رياضية دون معرفة المبادئ الأساسية التي يتوقف عليها حل المسألة. فمن الضروري أن يكون الإنسان على علم بجميع المعلومات الضرورية المتعلقة بتلك المسألة، وأن يحاول النظر إليها من جميع الزوايا المختلفة حتى تتضح له المبادئ الرئيسية أو العلاقات الضرورية لحلها.
ومن الممكن أيضًا أن تكون معلوماتنا السابقة الخاطئة حول موضوع المشكلة التي نريد حلها، من العوامل التي تعوق تفكيرنا عن الوصول إلى حل لها. ومن الأمثلة الأخرى على تلك العقبات التي تقف حجر عثرة في طريق التفكير السليم «غموض المعاني وإبهامها»، فالناس تجتمع وتتفاهم بواسطة اللغة، وتتناسب الأسماء التي تُطلق على الأشخاص والأشياء مع عقلية العامة. ومن هنا كانت أكثر الكلمات غير دقيقة، ومعظم العبارات غير سليمة، وم ثمَّ صارت اللغة تشكل عقبة أمام العقل. وكم من كلمات مبهمة، وكم من ألفاظ تُسَمِي أشياء لا وجود لها، ولذا يجب مراعاة الدقة فيما نستخدم من ألفاظ، وفيما نعطي تلك الألفاظ من معاني.
غموض المعاني وإبهامها هو إذن من أكبر عوامل سوء الفهم بين الناس، وعقبة كبرى في سبيل حل المشكلات واتخاذ القرارات. فمن موضوعات الجدل الذي لا ينتهي الكلام عن حقوق المواطنين وامتيازاتهم على أساس ما يقال من أن الناس خلقوا «متساويين»، ذلك أن كلمة «التساوي» هنا لا تعني ما تعنيه في الرياضيات، ولا تعني أن الناس يولدون متساويين في القدرات والاستعدادات وسمات الشخصية، بل تعني وجوب التساوي بينهم في الحقوق والفرص: حق الحرية وحق التمتع بالحياة، وأن تمنح لهم فرص التكافؤ في مجالات التعليم والعمل كل حسب قدراته ومواهبه وإنتاجه، بصرف النظر عن المولد والقرابة والطبقة الاجتماعية.
وبصفةٍ عامة يمكننا أن نقول إن سوء استخدام اللغة لا يساعد على حل المشكلات بقدر ما يؤدي إلى خلق المزيد من المشكلات. وهذا ما أطلق عليه «فرانسيس بيكون» اسم «أوهام السوق». فهو يطلق هذه التسمية على الأخطاء التي تنشأ من استعمال اللغة في التفاهم ونقل الأفكار. ومصدر الكارثة في هذا النوع من الأخطاء، هو أن الناس،كما يقول «بيكون» بحق: «يعتقدون أن عقولهم تتحكم في الألفاظ التي يستعملونها غافلين عن أن الألفاظ – في واقع الأمر – هى التي تعود بعد نحتها كي تتحكم في عقولهم».
أما «التحيز الانفعالي» فهو عائق كبير في طريق التفكير السليم إذ إن ميولنا واعتقاداتنا واتجاهاتنا الفكرية تؤثر إلى حدٍ بعيد في تفكيرنا وحلنا للمشكلات. وفي إحدى التجارب قُدِمَ إلى مجموعة من الطلبة الأمريكيين اثنان وسبعون برهانًا قياسيًا وطُلِبَ منهم أن يبينوا ما إذا كانت النتيجة تعتبر نتيجة منطقية مستخلصة من المقدمتين المستخدمتين في القياس. إن نصف هذه البراهين القياسية كان يتعلق بأمور لا تثير الانفعال. أما النصف الآخر من البراهين فكان يتعلق بأمور مشحونة بالانفعال. فبعضها كان يتعلق بالزنوج، وبعضها يتعلق باليهود، وبعضها يتعلق بالعرب، وبعضها يتعلق بدور المرأة، وبعضها بشعارات وطنية مختلفة. وقد تبين من نتائج هذه التجربة أن جميع الأشخاص وقعوا في عدد من الأخطاء في البراهين المشبعة بالانفعال أكبر من عدد الأخطاء التي وقعوا فيها في البراهين الأخرى المحايدة من الناحية الانفعالية، مما يدل على أثر الانفعال في التفكير، حيث يميل بالتفكير إلى التحيز والوقوع في الخطأ.
وغالباً ما يأتي التحيز من نسق القيم الذي يشوه الواقع، فالتمييز العنصري في أغلبه ينطوي على التقليل من شأن الآخر. وتوضيحًا لذلك نأخذ المثال الآتي:
أورد أحد علماء الجريمة الأمريكيين ممن يؤمنون بالتفرقة العنصرية إحصاءً بعدد الزنوج النزلاء في بعض السجون الأمريكية، ونسبتهم إلى عدد النزلاء البيض، وانتهى إلى القول بأن الملونين أكثر ميلاً - بفطرتهم - إلى ارتكاب الجرائم. مع أنه لو قام بتحليل الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يعيشها الملونون في الولايات المتحدة الأمريكية وبخاصةٍ ولايات الجنوب، لما انتهى إلى القول بأن الملون يميل بطبيعته لارتكاب الجريمة. وهو بهذا إنما ربط ربطًا سببيًا بين صفتين ليست بينما أساسًا علاقة سببية، وهما لون البشرة والسلوك الإجرامي، إنما قام بهذا الربط تأييدًا لفكرة سابقة في ذهنه هى التفرقة العنصرية على أساس اللون، وكأنه بهذا يتلمس الأمثلة المؤيدة لفكرته، ويعتبرها شواهد صدق على صحتها. إن فعالية تفكيرنا إنما تتوقف على كوننا موضوعيين، وعلى ألا تكون نظرتنا إلى أنفسنا والعالَم شوهاء. ذلك لأن التحيز، الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو العقيدة التي يعتنقها، إنما يؤدي بالمرء إلى عدم التفكير فيما يتعصب له، بل يقبله على ما هو عليه فحسب، ومن ثمَّ فالتحيز يلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهى قيم قد تصلح في أي مجال عدا مجال الفكر.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الإنسان يميل بفطرته إلى تصديق ما يحب وإلى إنكار ما يكره واعتباره باطلاً، وحين يكون الواقع مريرًا يتخاذل المنطق. غير أنه يعز علينا أن نعترف بأننا كثيرًا ما نعتقد ما نريد أن نعتقد، وأن آراءنا تتأثر برغباتنا وعواطفنا إلى حد كبير، بخاصةٍ آراءنا في الناس وفي أنفسنا. زد على ذلك أن قليلاً هم الذين يفكرون قبل أن يعملوا، فالأغلب أننا نسلك أولاً ثم نلجأ بعد ذلك إلى التفكير لتبرير سلوكنا وآرائنا والدفاع عنها، أي أننا نقوم بأفعال معينة، ثم نفكر فيما فعلناه – هذا إذا فكرنا أصلاً – وذلك يفسر لنا غياب ثقافة الاعتذار في مجتمعاتنا فنحن ندافع عن أفعالنا (أخطائنا) التي قمنا بها في غيبة التفكير السليم.
الدكتور
حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء