سعادة ... المفكر الشهيد
.......................................................................................
لأنه حاول بالكلمة والموقف منع اغتيال فلسطين،اغتالوه ... خلال الاشهر الأربعة التي سبقت اغتياله،نشر سعاده في جريدة الحزب (الجيل الجديد)التي كان يرأس تحريرها ويكتب مقالها الرئيسي تحت العنوان الدائم (رأي الجيل الجديد)، عشرات المقالات عن المسألة الفلسطينية .ومن المرجح،بل المؤكد،انها كانت من أسباب اغتياله،خصوصا وأنه كزعيم للحزب، لم يكتف بورشةالكتابة الصحفية،بل كان فاتحا ورشة أخرى،من أجل تحقيق ما دعا اليه.ولأن هذه المقالات غابت عن الاثار والاعمال "الكاملة"
ردا على الصحافي والسياسي محي الدين النصولي الذي استغرب هزيمة "العصبة الواحدة" ،قال سعاده في14 أيار 1949 :"كنا عصبة واحدة في أمر واحد فقط: في التمويه والتضليل".وختم "منذ أربع وعشرين سنة ووهم العصبة الواحدة يجرنا الى الكارثة التي وقعت".
ويقول سعاده في17 أيار 1949 :"ان قضية فلسطين التي هي قضية الامة السورية، عولجت على أساس الاختلاطات العربية فضاعت قضيتها" .وختم "ان مستقبل القضية الفلسطينية وامكان القضاء على السيل الاسرائيلي الجارف،كامنان في نهضة الامة السورية الوحيدة التي في وسعها وحدها أن توحد الأرادة والقصد والطريق،في نهضة الشعب السوري من كبوة التوجيه الديني العشائري العثماني الاسلوب ،ومواجهة التنظيم الصهيوني بنظام أمتن والقوة الصهيونية بقوة أفعل".
جين ضيا
.. وبالعودة الى أحداث تلك الحقبة، يظهر بوضوح أنه تقرر في جلسة مجلس الوزراء برئاسة الصلح يوم 6 حزيران 1949 تصفية سعادة جسدياً.
كان موضوع الجلسة الرئيسي نشاطات سعاده وحزبه. وقامت قيامة رياض الصلح رئيس الوزراء اللبناني وبعض الوزراء ... واتخذ في ذلك الاجتماع قرار «بملاحقة الحزب وسعاده». هذه العبارة وردت حرفياً في الجلسة. ولتسهيل تنفيذ القرار تحمل رياض الصلح المسؤولية وتقرر إنشاء مجلس أمن قومي ترأسه الصلح، كما حدد ليل يوم 12 حزيران 1949 موعداً لبدء المداهمات..
وفي ذلك المساء هاجم الكتائبيون المطبعة وأحرقوها وجرحوا سبعة من القوميين بعد مغادرة سعاده مكاتب الجريدة بدقائق. يا للصدفة! كانت الكتائب عام 1949 مخلب قط لجأ النظام اللبناني اليه للتحرش بسعاده، ولعبت الدور نفسه في قتل الفلسطينيين بحادثة بوسطة عين الرمانة في نيسان 1975.
انتقل سعاده بعد وصول خبر الاعتداء على مكاتب الجريدة في الجميزة من منزله في رأس بيروت الى منزل منير الحسيني المشرف على باحة سجن الرمل. ومن هناك أوعز مجدداً بمواصلة الاتصالات مع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بهدف تجنب المواجهة مع السلطة، وهو الذي يعرف أن المخطط الذي وضعه رياض الصلح قد بوشر تنفيذه بعد دهم منزله وبدء موجة من الاعتقالات في شتى المناطق.
في تلك الليلة تلقى سعاده اتصالاً من ادمون طوبيا يعلمه أنه «موجود في دار صهره خليل فضول، معنا هنا فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة نلعب الورق «بريدج» وحضرة الرئيس تلقّى مخابرة هاتفية من رياض الصلح يدعوه بسرعة ليترأس مجلس الوزراء في القصر الجمهوري، فأجابه رئيس الجمهورية: لماذا هذه السرعة يا دولة الرئيس؟ وكان الجواب: يجب حضورك حالاً لجلسة استثنائية لأن أنطون سعاده أعلن التعبئة العامة في حزبه وقرر القيام بانقلاب في البلاد، لذلك نرجو حضوركم بسرعة».
يضيف ادمون طوبيا: «عندما ترك فخامة الرئيس السماعة توجه نحوي وقال: يا إدمون إن زعيمكم سعاده قرر القيام بانقلاب وتسلّم الحكم. انهض حالاً واطلبه على الهاتف واستعلم منه عن صحة هذا الخبر وقل له ألا يفعل شيئاً من ذلك. عندئذ طلبنا حضرة الزعيم ورجوته أن يطلعني على حقيقة هذا النبأ بالضبط، الأمر الذي نفاه الزعيم جملة وتفصيلاً»...
وكُلِّف نجيب الصايغ الاتصال برياض الصلح والبحث معه لإيجاد طريقة سلمية ولعدم تطور الأمور، وكان الحزب يكلّف الصايغ عادة الاتصال برياض الصلح نظراً لصداقته معه، كما أنه كان منتمياً للحزب وساهم بدور فعال عام 1947 لإلغاء مذكرة التوقيف بحق سعاده. وبعد يومين من الاتصالات المكثفة مع الصلح، اقتنع الأخير بلقاء المندوب الحزبي الذي يشرح بالتفصيل الحديث الذي جرى مع رئيس الحكومة على الوجه الآتي:
«دخلنا بيت رياض الصلح فوجدناه في غرفة النوم، ثم استقبلنا على الفراندا. وبعد جلوسنا فترة وجيزة قال: ماذا تريد هذه المرة؟
قلت له: يا دولة الرئيس جئت لأبحث معكم عن الأسباب التي حملتكم على ملاحقتنا بهذا الشكل الذي لا مبرر له على الإطلاق، ولكي تذكر لي ما هي الذنوب التي ارتكبناها لتحملوا علينا هذه الحملة. إذا كانت حادثة الجميزة السبب يكون عملكم هذا بالمقلوب لأن الواجب يقضي بملاحقة الكتائب لأنهم هم المعتدون علينا واعتداؤهم ظاهر.
فضحك وقال: إن قضية الجميزة قضية ثانوية جداً بالنسبة إلى الأشياء التي اكتشفناها عليكم. قضية الجميزة نعتبرها قضية جزئية عادية والتحقيق سيأخذ مجراه واللعبة ستقع على المعتدين، لكن أريد أن أصارحك بشيء له أهمية كبرى، وهو أنه من ستة أشهر ونحن نراقب رفاقكم وزعيمكم عن كثب والنتيجة اتضحت لنا وهي علاقتكم مع دولة أجنبية وعدوة.
فقلت له من تقصد بهذه الدولة؟ أجاب: إسرائيل، وعندما تأكدنا ولمسنا لمس اليقين وتثبتت العلاقة الخطرة قررنا ملاحقتكم».
.. إن الطبيعة الحقيقية للصفقة التي خان بموجبها الزعيم (حسني الزعيم) سعاده لا تزال غير معروفة. لقد تم التداول في مصادر عدة أن رئيس الوزراء (رياض الصلح) «اشترى» أنطون سعاده من حسني الزعيم وأنه تم الضغط على الديكتاتور السوري لتسليمه. وليس من قبيل الصدفة أنه خلال وقت قصير وقع الزعيم اتفاقاً اقتصادياً مع لبنان منهياً مرحلة طويلة من النزاع (باتريك سيل-الصراع على سوريا ص71)..
يقول الأمير فريد شهاب (المدير العام للأمن العام) في مقابلة صحافية أجريت معه: «الساعة الثانية ليلاً وصلت إلى حدود المصنع وكانت وقتها مفتوحة لا وجود لأمن عام أو جمارك. انتظرنا ربع ساعة، عندها وصل 12 أو 15 مخبراً باللباس المدني في سيارات عديدة وكان معهم الزعيم. سلموني إيّاه وسلمته بدوري الى الضابط العسكري الكبير (رفض فريد شهاب البوح باسمه لأن ذلك من موجبات المهنة كما قال) وسرت أنا بسيارتي أمامهم.
عندما وصلنا إلى قرب عنجر أشار لي الضابط العسكري الكبير بالتوقف. توقفت فترجل الضابط من سيارته واقترب مني قائلاً: «معي أوامر بتصريفو (تصفيته) ، شو رأيك؟» أجبته مباشرة وبحدة: «أنا أمانع بشدة، نحن لسنا قَتَلَة، وهذا التصرف ليس تصرفاً سليماً بحق الدولة»، فأجابني على الفور: «أنا كمان من رأيك»
بالطبع كانت أوامر التصفية إلى الضابط الكبير قد أتت من رياض الصلح الذي يبدو أنه فوجئ بما جرى إذ لم يكن ضمن حساباته، لذلك كان الارتباك والدعوة إلى عقد محكمة عسكرية سريعة كانت نتيجتها الإعدام.. ومن المؤكد أن أطرافاً عرباً وقوى سياسية لبنانية محلية ساهمت بالإطباق على سعاده وتصفيته جسدياً.
وسياق الأحداث والتطورات التي سبقت وتلت عملية القتل تؤكد ذلك، سواء من الاتفاقات السرية بين حسني الزعيم وموشي شرتوك (أول وزير خارجية ورئيس الورزاء الثاني لدولة إسرائيل) أو الاجتماعات بين الصلح وقادة الحركة الصهيونية حتى بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948. كما قال وايزمن في مذكراته إن الصلح كان في «مهمّة اتصال سلمي مع اليهود حين اغتيل»!
بدر الحاج
فتح باب السيارة العسكرية من الخلف وأنزل سعادة، وحينما شاهد عمود الإعدام تطلع اليهم وقال "كنت أتوقع هذا المصير منذ اللحظة الأولى التي اعتقلت فيها". وذكرت"بيروت" أنه لما وقعت عيناه على خشبة الموت وقد اصطف أمامها 12 جنديا فلم يبد عليه أي تأثر أو انفعال بل سار نحوها ثابت الخطى وهناك ألبس الثوب الأبيض ثم وقف يستمع الى قرار الحكم بالإعدام .
بعد ذلك تقدم منه الطبيب النقيب النجار وفحص قلبه وجس نبضه فقال له سعادة مبتسما "أتحسب نبضي متسارعا من الخوف؟" وبحسب الرواية المتداولة فإن الطبيب قد سجل "أن النبض كان طبيعيا". ولكن العميد جنادري الذي رافق نسيبه أبو شقرا ( وكان ابن خالته) الى حقل الرماية لمشاهدة الإعدام، يقول ونقلا عن النقيب النجار أن نبض سعادة تسارع الى المئة .
تقدم الملازم أول بريدي ليعصب عينيه فقال له "لماذا تعصب عيني؟هي لحظة تطلقون فيها النار فأموت.وقد قلت لك أنا لا أخاف الموت".فأجابه إنه القانون .ولما عصبت عيناه قال "شكرا ". ( وفي رواية " القبس" " مهلا خفف الرباط").
ثم طلب منه أن يركع على ركبتيه فأجاب أنا لا أخاف الرصاص أفليس من سبيل الى الإستغناء عن هذه المسائل ؟. فأجيب إنه القانون.
فأركع ثم تقدم الملازم أول بريدي لربطه بالعمود فسأله سعادة إذا كان ذلك ضروريا فأجابه إنه القانون.
فلف جسمه لفا بالحبل مع العمود، بعدها وقف الكاتب يتلو عليه نص الحكم ولم يجب سعادة سوى بابتسامة مرة وكلمة "شكرا". ثم شكا من أن بحصة تحت ركبته تؤلمه فتولى الجندي سحاقيان وهو كندرجي الفوج الثالث ،إزالتها، فقال له شكرا.
وأضافت "بيروت" أن الجلاد جاء بخرقة ووضعها تحت ركبتي سعادة ، وبحسب مدونات جورج عبد المسيح الذي تعقب معظم "أبطال" الإعدام وسجل معلوماتهم فإن سحاقيان بكى مرارا كلما ذكر لفظة شكرا تأتيه من رجل مربوط الى عمود الإعدام.
كانت مفرزة الإعدام التي اختيرت من عناصر فوج القناصة الثالث برئاسة النائب الياس ابراهيم، تقف على بعد ستة أمتار منه، وفي لحظة ركع نصف المفرزة على ركبة واحدة بينما بقي النصف الآخر واقفا، وشق سكون الليل كلمة " نار " وبحسب يوسف كسبار ، احد عناصر سرية الإعدام ، صدر الأمر بكلمة "feu" أطلقها الملازم أول بريدي ، وعندها سمع صوت سعادة يقول :"قل نار"،ومعه انصبت دفعة واحدة إحدى عشرة رصاصة من اثنتي عشرة بندقية فمزق الرصاص صدره ورأسه فسقط جانب من كتفه وانكفأ رأسه وتدلى مفارقا الحياة .
ثم تقدم الملازم اول بريدي وأفرغ رصاصة الرحمة من مسدسه على رأس سعادة فيما تقدم النقيب النجار لمعاينة الجثة وأعلن الوفاة، وبعد مرور حوالي خمس دقائق حل رباط الجثة من العمود ووضعت في النعش ... وكان النعش"أشبه منه بصندوق" وسلم الى المفوض حسن الزين الذي كلف بتأمين دفن الجثة . فنقلت الى سيارة الصليب الأحمر التي أقلته الى مدفن مار الياس، وكانت الدماء تسيل طوال الوقت من شقوق النعش المرتجل . وكادوا يدفنون سعادة من غير صلاة لو لم يتعال صياح الكاهن.
فقالوا له " صل, إنما اسرع. صل, من قريبو".وفي بعض الروايات ان الاب عبد الكريم ، راعي الكنيسة شارك في القداس وحضور مختار محلة المزرعة.
وفي المدافن تولى "المقبرجي" نصري تادروس يعاونه رجل من بيت سبير، إنزال التابوت ونصبا صليبا صنع على عجل من خشب السحاحير . وعلى الأثر رابطت قوة من الجيش حول القبر وفرض على كل زائر أن يسجل اسمه وأوصافه.
حينما جلس ابراهيم داغر يكتب تحقيقه الصحافي مدونا ما كان يمليه عليه نسيبه موسى جريديني ، سأل الأول الأخير "ما هو أكثر شيء أثر بك في عملية الإعدام؟" أجاب رئيس قلم النيابة العامة الإستئنافية "حينما ارتفع صوت سعادة قبل انطلاق الرصاص بكلمة " تحيا سوريا ". وبعدها هوى رأس سعادة على كتفه وساد سكون رهيب .
انطوان بطرس
البقاء لله والوطن
رحم الله المفكر الشهيد انطون سعاده
إعداد علي حسين الحموي
من صفحة الحزب السوري القومي الاجتماعي
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء