لاءات آنتيغون الخمس
............................................................................
عبر تاريخه الطويل الذي يمتد لأكثر من ألفي وخمسمائة عام قدم لنا فن المسرح آلاف النماذج التي شكلت، تجسيداً لشتي القيم والرغبات والنوازع البشرية ، بيد أن العدد القليل من هذه الشخصيات هي التي كتب لها الخلود في الذاكرة الجمعية الإنسانية وذلك لما تطرحه من قضايا وتساؤلات ذات طابع عالمي رحب لا قطري ضيق ، شخصيات من قبيل شخصية الملك أوديب، والبطل اجاممنون، وأمير الدنمارك هاملت وقائد ثورة العبيد سبارتاكوس.
وبطلة هذا المقال هي من النمط الأخير اي من الشخصيات المسرحية التي كانت عظيمة السلطان واسعة النفوذ على مخيال العديد من المبدعين، فعبروا عن حفاوتهم بما جسدته من قيم بالكلمة العذبة واللون المشرق واللحن الشجي.
فمن تكون آنتيجون و أي القيم تجسد ؟
آنتيغون هو أسم لبطلة المسرحية التي تحمل اسمها _آنتيغون التي كتبها سوفوكليس وعرضت للمرة الأولى في آثينا عام 441 ق. م، ويعني اسم آنتيغون " التي لا تنحني" أو هو يعني " التي تحل محل الأم". وهي نجلة الملك أوديب والملكة جيوكاست ملكا ممكلة ثيفا أو طيبة الإغريقية واخت لثلاثة أشقاء هم آسمين، واتيوكليس وبولونيس
في الواقع أن شخصية آنتيغون من الشخصيات التي جسدت العديد من القيم، فنجدها تجسيداً لقيمة الوفاء في مسرحية " اوديب في كولونا " فكانت بمثابة أم لأبيها وعينا يبصر بها وعصي يتوكأ عليها، وكذلك نلمس ذات الوفاء، في المسرحية التي تخلد اسمها ولكن هذه المرة لاخيها الصريع" بولونيس" الذي حرم خالها كريون الملك دفنه حتى يكون طعاماً للكل ذا ناب من السباع وجارح من الطير، فتتمرد علي أمر الملك إمتثالاً لأوامر " هاديس" إله العالم السفلي، وإكراماً لجثة أخيها.
إن آنتيغون صفعة على وجه الإستبداد، وصرخة حرية في وجه الإستعباد، إنها لاء العدالة التي تتحدي الظلم. فهي لاءاتها الخمس تزيل مساحيق الزينة وكل مظاهر التبرج لتسفر عن الوجه القبيح لحكم الفرد، فكانت اللاء الأولى "لا" لإ تباع الهوى وتغيير شريعة الإله التي تتعارض مع رغبة الحاكم في التشفي و الإنتقام، وكانت اللاء الثانية" لا" للتخلي عمن نحب ولو كان الثمن هو خيط النفس ذاته، ثم ماذا عن اللاء الثالثة انها " لا" لحكم الفرد والإستبداد السياسي، وجاءت اللاء الرابعة " لا" لاخوف فالخوف والموت سواء، واللاء الخامسة والأخيرة هي" لا" الكراهية.
هذه كانت لاءات آنتيغون الخمس كما قرأتها في رائعة سوفوكليس في الجدل الذي دار بين بطلة العرض والمقال وبين الطاغية المستبد كريون، وهو الحوار الذي ابسطه بين أيدي حضراتكم بتصرف لتستمتعوا به كما استمتعت، ولتسعدوا به كما سعدت...
المنظر قاعة العرش في قصر كريون، وقد امسك الحراس بآنتيغون وهي توارى أخيها الثرى
-كريون : أتظلين مطرقة إلى الأرض من غير أن تنكري ما تؤخذين به؟
-آنتيغون : كلا، بل أنا أعترف به، وانا ابعد الناس من إنكاره
-كريون : أتعلمين أنني كنت قد حظرت بولونيس؟
-آنتيغون : نعم أعلم ذلك، وهل كان يمكن أن اجهله، وقد أعلن إلى الناس كافة؟!
-كريون :وكيف جرؤت على مخالفة هذا الأمر؟
-آنتيغون : ذلك لإنه لم يصدر عن زيوس، ولا عن عدل مواطني آلهة الموتى، ولا عن غيرهما من الإلهة التي يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن امورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل من القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي ليس إلى محوها من سبيل، لم توجد هذه القوانين منذ اليوم ولا منذ أمس، هي خالدة أبدية، وليس من يستطيع أن يعلم متى وجدت، ألم يكن من الحق على إذن أن اذعن لأمر الآلهة دون أن أخشى أحداً من الناس؟!، وقد كنت أعلم أني ميته، وهل كان يمكن أن أجهل ذلك حتى ولو لم تنطق به؟!، فإن كان موتي سابقاً لأوانه، فما أرى في ذلك إلا خيراً، ومن ذا الذي يعيش من اللآلام في مثل هذه الهوة التي اعيش فيها ثم لا يرى الموت سعادة وخيراً، فأنت ترى اني لا أرى هذه الآخرة كأنها عقوبة، ولقد كنت أتعرض لما هو أشد لنفسي إيذاءً لو اني تركت بالعراء اخاً حملته الأحشاء التي حملتني، ذلك وحده هو الذي كان سيجعلني نهب اليأس والقنوط، أما ما دونه فما كان ليحزنني أو يؤثر في، فإذا قضيت بعد ذلك على ما فعلت انه نتيجة جنون، فمثل هذا القضاء لا يصدر إلا عن أحمق مأفون.
يوجه كريون حديثه للجوقة الجالسة في بلاطه :ثقوا بأن هذه الأنفس الأبية سريعة الإنكسار، ألا ترون الحديد على شدته وصلابته كيف تعمل فيه النار فتلينه وتثنيه،أليست أقل شكيمة تكفي لتذليل أشد الجياد إباءً وشموساً؟، مثل هذا الكبر لا يحسن لمن كان عبداً لذوي قرابته، قليل ما فعلت من مخالفة القانون فهي تجرؤ على معارضتي، وتضيف إلى هذه الإهانة إهانة أخرى، فتعجب بما فعلت! ،إذن فمن الحق على إلا اكون رجلاً وان تكونه هي لو أني تركتها تستمتع بما انتحلت من السلطان من غير أن تلقى في ذلك ما هي اهل له من العقاب، نعم ستلقى ما هي أهل له من العذاب، ولو وصلت الصلات بينها وبين إلهنا المقدس زيوس حامي الأسرة أوثق الصلات، ما أشد بغضي لإولئك الذين يؤخذون وهم يقترفون الإثم فيحاولون تزينه وتنميقه.
-آنتيغون :أتتمني أكثر من موتى؟
-كريون : لا، تقر عيني حين أشهد مفارقتك هذه الحياة.
-آنتيغون : فما يمنعك من أن تأمر بها، وما ينفعك هذا الكلام الذي لا طائل فيه والذي يزيد سخطي، كما أن كلامي لا يستطيع أن يرضيك، واي مجد أحب الي من اني قد واريت أخي، واي مدح لم يهديه السامعون لو لم يعقد الخوف ألسنتهم، """ الا ان اكبر مزايا الظلم أن يستطيع أن يقول ويفعل ما يريد من غير أن يخشى عقوبة """.
-كريون : أتظنين أنك أبعد نظراً من اهل طيبة جميعاً؟!
-آنتيغون :أنهم يرون رأيي ولكنهم يلتزمون الصمت بين يديك
-كريون : الا يخزيك انك سلكت سبيلاً غير التي سلكوها؟!
-آنتيغون : ليس هناك ما يحمل على الخزي إذا شرف الإنسان من يصل الدم بينهم وبينه.، فإن هاديس إله الموتى هو الذي يأمرني بتشريفهما جميعاً جميعاً.
-كريون : ماذا أيأمرك هاديس بالتسوية بين الجريمة والفضيلة؟!
-آنتيغون :ومن يدري أيقبل الموتى تميزك بين الأشياء؟
-كريون :إن اعدائنا، لن يصبحوا أصدقائنا بعد الموت
-آنتيغون :ولدت لاحب لا لاكره.
وككل روح عظيمة دفعت آنتيغون ثمن مواجهتها للسلطة، فأمر كريون أن تدفن حية في قبر صخري مع الاموات، فأصبحت رمزاً مقاوماً واصبح هو رمزاً للإستبداد.
وائل سالم.
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء