أمير البزق... محمد عبد الكريم..!!
.......................................................................................
محمد عبد الكريم ؛ حكاية طويلة ، قصَّها ذلك العازف قصير القامة ، دوَّنَها بنَفَس العمالقة ، فأبدعَ عازفاً ومؤلفاً وملحناً ؛ ومطوراً لآلته. كان أحد الأمراء الثلاثة (أمير الشعر: أحمد شوقي، أمير الكمان : سامي الشوا، أمير البزق : محمد عبد الكريم) . وتعتبر معزوفة محمد عبد الكريم ( رقصة الشيطان ) من أصعب وأسرع المعزوفات على البزق ، لذلك لقب بألقاب كثيرة منها ( شيطان البزق – باكنيني البزق – أمير البزق – ملك البزق … الخ … ).
ولد محمد عبد الكريم عام 1911م ؛ في حي الخضر الشعبي ؛ بمدينة حمص وسط سورية ؛ من أسرة تعشق الموسيقا . وهو من أصول غجرية ..
عزف أمير البزق في بلاد كثيرة ، حيث جابَ المدن السورية ( دمشق وحمص وحلب وحماة وغيرها من المدن السورية) ؛ وفي بغداد وبيروت والقاهرة والقدس وباريس ولندن ومدن ألمانيا وإيطاليا وغيرها. من المساهمين بتأسيس إذاعات( القدس – دمشق – الشرق الأدنى ).
وعند افتتاح إذاعة دمشق الوطنية ؛ وضعَ شارتها الموسيقية ، وعمل ضمن فرقتها الموسيقية . وتابعَ إبداعاته في مجال التلحين والتأليف الموسيقي .
اهتم بالعزف على البزق اهتماماً خاصاً ، حتى غدا عازفاً لا يُجارى ، وغَدتْ سهرات أهل الطرب في حمص وأفراح بيوتاتها ؛ لا تستقيم إلا بعزفه الخلّاق .
وكما ذكر الباحث الموسيقي «صميم الشريف» ، فإن حمص لم تكن حلم «عبد الكريم» ، فطموحاته ؛ غدت بعد أن أصبح يجيد العزف على العود وعلى «النشأة كار» ـ العود الصغير ـ لا تتسع لها مدينة حمص . فرحلَ إلى حلب ، ليذهلها بعزفه ، ثم إلى دمشق التي انحنتْ له صاغرة ، وأطلقت عليه لقب «أمير البزق» ، ليغلب هذا اللقب حتى على اسمه .
أولى رحلاته ؛ كانت إلى حلب . أقام فيها العديد من الحفلات ، وبدأ فيها أولى خطوات التلحين، حين لحن أغنيته (ليه الدلال وأنت حبيبي) وغناها بصوته . عام 1925 زار القاهرة ، ودامت زيارته سنتين ، حيث تعرَّفَ على أقطاب الموسيقى فيها ؛ مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد وداوود حسني ومحمد عبد الوهاب، وأحيا العديد من الحفلات .
وفي مطلع الثلاثينيات سافر محمد عبد الكريم إلى القدس ، وتعرف الى كبار الموسيقيين الفلسطينيين مثل يوسف بتروني ويحيى السعودي وروحي خماش ومحمد غازي . لكن زيارته الأهم إلى فلسطين كانت عام 1936 لحضور افتتاح إذاعة القدس ، حيث عمل عازفاً ضمن فرقتها الموسيقية ، ثم تولى رئاستها . وخلال وجوده في القدس لحن للعديد من المطربين الفلسطينيين مثل فهد نجار وماري عكاوي ومحمد غازي . وعند افتتاح إذاعة الشرق الأدنى في يافا حضر افتتاحها ووضع لها شارتها الموسيقية ، كما شكل فرقتها الموسيقية ، وتولى رئاستها .
لحن الكثير من الأغنيات لمشاهير المطربين والمطربات ؛ أمثال : سعاد محمد ؛ صالح عبد الحي ؛ ماري مكاوي ؛ فهد نجار ؛ فايزة أحمد بأشهر أغانيها يا جارتي ليلى ؛ نجاح سلام وأغنيتها الجميلة رقة حسنك وجمالك.. وغيرهم .
موسيقيون ومطربون ومطربات كبار عايشوا براعته الموسيقية ، فتحدثوا عن «عبد الكريم» ؛ وعلى رأسهم :
موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ؛ الذي قال : «إذا كانت الموسيقى الغربية تفتخر بـ«باغانيني» كأشهر عازف كمان ، فالموسيقا الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف بزق».
«أنت موهبة عظيمة ، يا سلام يا أمير» (أم كلثوم)
«إنك من فلتات الطبيعة» (عباس محمود العقاد)
«أسمع الأنغام الصحيحة التي ليس فيها زيف» (أحمد شوقي)
«قال لي أحد العازفين : انتبه فالأستاذ محمد لا يعلمك اللحن فقط ، بل يعلمك كيف تغنّي ، ولم أكن أدرك يومها ذلك ، إلى أن كبرت » (صباح فخري).
«أمير البزق، نغم حائر ولحن متميز، هل هو معجزة أم أسطورة ؟ أم هرم من الأهرامات الفنية الكبيرة ؟ أم عبقري أم فيلسوف أم عملاق؟ إنه مزيج من كل هذه الاستفهامات» - (نجيب السراج)
طرائف الأمير ..ومفارقات عديدة شكلت نكهة مميزة لمسيرة الأمير ، لما يتمتع به من روح الدعابة وسرعة البديهة وحب التحدي :
- ولربما كان أبرزها ما حدث في أمسية موسيقية ، أقامها على أحد مسارح لندن : ففي لحظة ظهوره على الخشبة ؛ و بعد أن قدمه المذيع للجمهور على المسرح ، هزأ الجمهور منه ، و بدأ بالصفير ، واستقبله الجمهور هناك بالضحك والاستهزاء ؛ نظراً إلى قصر قامته وضعف بنيته . فما كان منه إلا أن خلع حذاءه ، وأخذ يعزف بأصابع قدمه على البزق ، حينها عزف مقطوعة من التراث الموسيقي البريطاني ، وفي بعض المصادر قيل إنه عزف النشيد الوطني البريطاني ، فتحول موقف الجمهور بعدها للذهول والإعجاب والتصفيق . مما جعل جمهور الحضور يقفون إجلالاً له و لعزفه المتقن ، ثم غادر المسرح ، و لم يعد إليه إلا بعد اعتذار و تأسف لما حدث من الجمهور .
- في رواية في بغداد ، وفي رواية أخرى في باريس استمع الملك فيصل ( ملك العراق آنذاك )إلى عزف محمد عبد الكريم في حفلة ، فأعجب به ، ووصفه بأنه أمير العزف على آلة البزق ، فطلب منه محمد عبد الكريم (فرماناً) يشير إلى ذلك ، فأصدر فيصل أمرا ملكياً بتسمية محمد عبد الكريم أميراً لآلة البزق . ولا تزال هذه الصفة ترافق اسمه حتى اليوم.
- في إحدى زياراته إلى ألمانيا ؛ وهو يغني في إحدى حاناتها ، شاهده (هتلر ) قبل استلامه الحكم ، وسأل : من هذا الحمار ؟ و بعد أن فهم من مرافقه ما قاله عنه ، أجابه بالرد عزفاَ و غناء على البزق ، حتى جعله يهز رأسه إعجاباَ به .
- في سهرة خاصة بمنزل المطربة ( كروان ) ؛ و بحضور المطرب و الملحن نجيب السراج و الشاعر الغنائي نظمي عبد العزيز و زوجته و حشد غفير من أصدقاء الفن و الفنان الراحل محمد عبد الكريم ، وبعد أن قدم المطرب نجيب و المطربة كروان وصلتين غنائيتين ، ومن ثم عزف الأمير على البزق عزفاً منفرداَ ، كان مسك ختام تلك السهرة . وصلة عزف سحرية بأنامل الأمير ؛ أبكتْ الحضور ، ثم أضحكتْهم ثم جعلتهم نياماَ .
- في ذات ليلة ؛ وبينما كان الأمير في إحدى السهرات، تناهى إلى سمعه صوت نهيق لحمار، فاهتم به كثيراً، وصمتَ صاغياً، إلى أن انتهى الحمار من نهيقه ، عندها رفع محمد عبد الكريم رأسه وقال: «لقد كانت القفلة نشازاً».
الرحيل الحزين
في غرفة متواضعة صغيرة ؛ أمضى سني حياته الأخيرة ؛ في حي عين الكرش بدمشق قضى قسطاً كبيراً من حياته ، فشهدت هذه الغرفة الكثير من إبداعاته والكثير من حزن الأمير الفقير المعدم ، الذي قدم للحياة كل ما يملك من فن.. فلم تقدم له أكثر من الألم ، قاسمه مرض السرطان عامه الأخير، وأجبره على الرحيل في الثلاثين من كانون الثاني عام 1989 ، ولم يرافق جسده المسجى إلى مقبرة الدحداح بدمشق إلا عدد قليل من المشيعين ، فكانت الخاتمة التي لم يستحقها أمير مثله.
( مراجع ومصادر متنوعة ....)
ألا يستحق هذا العملاق تمثالا يليق به وبإبداعاته ...؟؟!!!
تحية إلى أرض حمص العدية التي أنجبت الفنان العبقري أمير البزق...
٢٦ كانون الأول ٢٠١٧
نورالدين منى
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء