لقاء مع الشاعرة السورية "بشرى بدر" (الجزء الأول)
.........................................
(كونْتُ من عصارة الألم عالماً يندى بالجمال الذي أتطلع إليه، عالماً كان ومازال معمداً للروح يبلسم أوجاعها حين ترِدُ انهاره مرهقةً عطشى فيردها ريّانة وأقوى)
رأت طفلا يبكي .. فاكفهرت غيوم السماء في وجدانها، تلبداً خريفياً جشم على صدرها فباحت به قصائد متراقصة في ربيع شرفتها ..
رأت فقيراً جائعاً .. فهرع صرير ألم معانقا قلبها المنفطر دموعاً، يستميحه عذراً .. فنضح قلمها باشعار تصدح بأمل روحها ..
عاشت حرباً شعواء .. واضعة اوزارها، واطئة بثقلها بيداء الروح، فانعكس أثرها بوحاً يذري سراب الدماء.
الشاعرة بشرى بدر من روحها الساحرة .. من بريق عينيها .. من ثغرها تتدحرج درر الكلمات فيفوح بخور المعاني بطيوب العنبر الهندي والمسك عبر هذا الحوار الشعري والفكري الذي أجرته معها "الرابطة الثقافية المعرفية" .. اهلا بكِ
1) الشاعرة بشرى بدر ، أين وصلت بك أمواج الشعر اليوم ؟
_ بعد التحيّة و الترحيب أقول :
ليس لأمواج الشعر قرار , فهي و إن لامست شاطئاً قد يوهمنا البصر بأنّ رماله ابتلعتها إلّا أنّها في حقيقة الأمر موجودة و في ديمومة حركة . و مَن ركبها يدرك جيّداً أنّها باتت قدراً لا يستطيع الترجّل عنه إلّا بمشيئته .. لذلك أراني الآن معها في مضيق زمني على الصعيدين : العامّ و الخاصّ , أريد أن أقول كلّ ما فاتني قولُه فيحاربني خذلانُ الجسد من جهة و قناعة اللا جدوى من جهة أخرى , إضافة إلى قيود حريّة التعبير في واقعنا العربيّ الراهن و التي لا يمكن الاستهانة بالمخاوف من وخيمٍ ينجمُ عن كسرها , دائرته أوسع منك و ألمه أكبر من تحمّلك ..
تأتي ،،
و على حين همسة
تلبسني غلالة من عطر
ينسدل علينا الوقت
فنغشى ..
قل :
سبح باسم الذي
أمات و أحيا
بالعشق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغمض قلبك أيها الزهر
فحبيبك
حارس القمر
مليك مواسم العطر
وعوده
حدائق ضوء
و ..
غيومه حانثات .
أغمض
فما في الروح ماء
يكفي الانتظار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ادنُ منّي ،
من وريدٍ لوريدٍ
نخبَ همس
في الحُميّـا
نرتشفْ .
دعْـكَ من حرفٍ
سيفنى
و اشتعل في العشق
أسمى
نتماهى
ثمّ نرقى
و نشفّْ .
2) في كتابتكم الأدبيّة نفحات صوفيّة واضحة , و نلحظ في أكثر من قصيدة أنفاس الحلّاج و السهروردي و الروميّ و غيرهم .. فهل كان للتصوّف تأثير على فلسفتكم في الحياة ؟
_ تسهل الإجابة على السؤال بِـنعم أو بِـلا لو كانت بشرى من ذوات العمق المعرفيّ بالمذهب الصوفيّ و أبعاده و تداخلاته الفلسفيّة , لكنّي لستُ كذلك و لن أدّعيه , لا أنكر أنّي قرأتُ عن الحلّاج و جلال الدين الروميّ و وجدتُ تقارباً روحيّاً مع جوانب كثيرة من المكنون في أصداف كلمات ما قرأتُ , إنّما ذلك لم يصل إلى درجة التأثّر و تشرّب الفلسفة الصوفيّة .. و كلّ ما في الأمر أنّني امرأةٌ عاشت تجربة حياتيّة فيها العديد من الضغوط و القسوة النفسيّة , امرأةٌ عنيدة عدائيّة ( لا عدوانيّة ) رفضت الاستسلام الكامل فقرّرت المضيّ بالتحدّي , و لأنّها أرادت معركتها بأقلّ الخسائر بحثت عن ملاذ تأوي إليه ذاتُها حين تعب لتستريح قليلاً قبل أن تعاود النهوض , فكان لها أن كوّنت من عصارة الألم عالماً يندى بالجمال الذي تتطلّع إليه , عالماً كان و ما زال معمداً للروح يُبلسم أوجاعها حين ترِدُ أنهاره مرهقةً عطشى فيردّها ريّانة و أقوى , هذا العالم أخبرتني القراءات فيما بعد أنّه يلامس الصوفيّة لكنّه حتماً ليس منها و لا تأثّراً بها , إذ لا يمكن للتأثّر أن يسبق المؤثِّر .
مسجونة في مدى عينيك ،
أنزو في غريب إحساس ،،
كما طفرة الأحمر في الفلّ ،
أو اختلاس الحمّى لحظةً
للابتراد قرب النبع ،
كما حلم البنفسج بقامة
للرقص مع زنبق
مغرور ،،
مسجونة في مدى عينيك ،
و أخشى
أن أغفو فوق أجفانك
فلا تراني .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في المحطة
دع الانتظار يموت وحيدا
على خشب المقعد
الحب ليس قطارا
و من هنا
لن تمر وروده ..
هو مطر دافئ
يومي لرعشة البرد فيك
بهمسة و نغم
فامض إليه بلا مظلة
عاريا من كل وهم
اغتسل بحنانه
و من نايات سحره
ارشف إكسير العطر
تتفتح وردة
3) تستعيرين قصصاً و أمثالاً من التراث ,و من أجمل استعاراتك _ كما أرى _ حكاية سنيسل و رباع , فهل لهذه الحكاية شيءٌ مميّزٌ عندك ؟
_ من منّا لم تترك حكايات الصغر أثراً فيه و تأخذ حيّزاً من تفكيره و محاكمته العقليّة لما تُليَ على أسماعه ؟!! و بخاصّة تلك الحكايات التي ما تناقلتها الأجيال و الشعوب عبثاً , إذ تجد فيها من الحكمة و العبرة ما يؤكّد أنّها خلاصة تجارب متراكمة عبر الزمن و لعلّ في ذلك سرّ تميّزها و استمرارها من جهة , و مدعاة للتأمّل فيها بين الحين و الآخر من جهة أخرى .. فحكاية سنيسل و رباع الّتي ذكرت على سبيل المثال هي ذاتها قصّة البيت الصغير أو الكبير أو الأكبر , و الّتي تكون الغفلة سبباً في انتهاك حرمته و هدم حصانته , فعبر تاريخ الدلالات بقي الذئب يرمز للمُترقّب تلك الغفلة و المسرور بها , و ما نراه الآن يُظهر أنّ الذئب صار ذئباناً بأقنعة دائمة التجدّد و طحين الخديعة تنوّعت أشكاله , و أنّ الكثير من إخوة سنيسل و رباع ما زالوا غافلين عنه مأخوذين بقراءة نتائج أفعاله لا باستشراف أبعادها كمقّدمات لأفعال قادمة , أضيفُ إلى ذلك أنّ عنزتنا عرجاء لاهية لا جانية ، طال غيابها فيبس العشب و قلّ الحليب و طحن الفقر النفوس كما العقول , فتاهت في ضباب الدهاليز باحثة عن منافذ للحياة , في الوقت الذي أكل المتاريسَ صدأُ الإهمال فهشّت و تركت الأبواب للريح , الريح الّتي و على الرغم من عصفها الشديد أحاول التفاؤل بخاتمة تشبه نهاية الحكاية ليجتمع الأبناء في الدار متماسكيّ الأيادي و بكامل وعيهم لمعنى الفرح و الخلاص الحقيقيّين .
4) تقولين إنّ السرقة الأدبيّة لا تُجدي السارق نفعاً , لأنّه لا يسرق طريقة التفكير الّتي أنتجت القصيدة .. لكنّ السرقات الأدبيّة منتشرة بكثرة في العالم الافتراضيّ , فهل هناك طريقة لمنعها أو الحدّ منها ؟
_ صحيح , فسارق النصّ الأدبيّ كسارق المولود لا يعيش حالة المخاض و لا الولادة و يفتقد للحميميّة بينه و بين المسروق , و سرعان ما تكشف سرقاته بدلائل عدّة كتفاوت المستويات و المعجم و اختلاف هويّات النصوص " سيكون لديه من كلّ قطر أغنية كما نردّد , و أبناء بملامح متباينة ربّما لا يُحسن فهم أغوارهم " ..
و أحسب أنّ منع السرقات في ظلّ الفوضى الأدبيّة الحاليّة أمرٌ شبه متعذّر لعدّة أسباب أوّلها سعة الساحة الأدبيّة عربيّاً و عالميّاً , و افتقار مناهجنا المعرفيّة إلى الانفتاح على الأدب العالميّ الذي لم يسلم من اللصوصيّة الأدبيّة , يُضاف إلى ذلك و هو الأهمّ غياب النقد الأدبيّ الحقيقيّ عن الساحة , و في حال وُجد _ على ندرة ذلك _ نجده مُحارَباً غير مسموع أو مقروء , لأنّ التوجّه غالباً للكمّ لا للنوع , و رابع الأسباب و لعلّه الأشدّ عرقلة لمنع السرقات هو واقعنا المعيشيّ بما فيه من ضغوط على الأصعدة كلّها و الذي يُصعّب التفرّغ للعمل الأدبيّ النقديّ و للاهتمام بما يجري في دائرة متواصلة الزحام , و الاتّساع , و الانفتاح على تيّارات جديدة .
في ظلّ هذا و غيره ممّا لم أذكر , و هو كثير , أرى أنّ العمل لإيجاد هيئة أدبيّة موثوقة غير خاضعة لأيّ توجيه , و لا أفترضها هيئة أدبيّة سلطويّة موجِّهة أيضاً , هيئة حرّة تابعة لدولة الأدب و لها ضوابطها البعيدة عن القيود المُربِكة للإبداع , مهمّتها القيام بالتوثيق الأدبيّ ورقيّاً و إلكترونيّاً للمحافظة على حقوق الإبداع و المُبدع .. و أنا لا أدّعي ابتكار الطرح فثمّة ما يشبه ذلك موجود لكنّه لم يبلغ المستوى المنشود حيث الأهميّة لا تكمن في التوثيق وحده و إنّما لا بدّ من اقترانه بمهمّة التحقّق من نسبة النصّ للإبداع من جهة و للمُبدِع من جهة أخرى .. لعلّ مثل هذا العمل يحدّ من السرقات أو على الأقلّ يُربِك من يقوم بها .
لِمَنْ يا نفسُ أوقـدْتِ الشموعا
و ذرّفـتِ الثوانيَ و الـدموعا
أما تـدريـن موحشَـهـا ديـاري
و أنّ الزهـرَ غادرَ تي الربوعا
كأنّـكِ مـا ذكـرْتِ غــداةَ راحــوا
و نادى ذا المُنادي لا رجوعا
و كيفَ تجهّـمَـتْ وجُهاتُ دنيا
فأغرقتِ السفـائـنَ و القلوعا
أنـاديهـمْ و قــد بـعــدُوا مـكـانـاً
و ما تركتْ طيوبُهمُ الضلوعـا
إعداد: عمار يماني - رؤى حيدر
يتبع ....
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء