العلم_ووهم_الرؤية_الكونية
ما من شكّ في بلوغ التقدم العلمي مستويات مذهلة، تنبئ عن ثورة تستحقّ كل تقدير واحترام، بتمكينها الإنسان من معرفة محيطه المادّي والسيطرة عليه.
ويمكن بيان هذه النقلة العلمية النوعية من خلال إنجازات ثلاث:
1- فكّ شيفرة الخارطة الجينية في علم البيولوجيا...
2- سبر معالم الفضاء الخارجي وعوالمه في علم الفلك....
3- التطور المبهر في مجال الاتصالات...
لكنّ هذا المشهد أوهم العلماء وأغراهم في الخوض في مجالات لايمكن للعلم والمنهج العلمي الخوض فيه والخروج بنتائج واقعية. فقد أقحم العلم في مهمة تكوين رؤية شاملة عن الكون؛ بحيث أوكل إليه الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى (من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟...) لينوب بذلك عن الفلسفة والدين!
والحقيقة أنّ هذه المجازفة وقعت ،دون أن يشعر أصحابها، في خلل منهجي خطير، وهو الاعتماد على المنهج التجريبي في بناء تصور كلّي للكون، فلم يدرك مشجعو هذا الاتجاه أنّ المنهج العلمي التجريبي يقف ،بطبيعته، عند حدود الظاهرة المبحوثة ولا يتعداّها؛ فتناول ظاهرة طبيعية ما من خلال المنهج التجريبي، إنما ينصبّ على ارتباطات عناصر هذه الظاهرة وبنيتها، وعلاقتها بغيرها من الظواهر، التي تستطيع التجربة والملاحظة العلميّة إخضاعها لمجالها.
فلا يمكن للمنهج العلمي التجريبي تعدّي هذه المهمة، وبالتالي فإنّه غير قادر على إعطاء رأي خارج ذلك؛ إيجابيّا كان أم سلبيّا، ولذلك فاننا عندما نريد الخوض في مسالة غير تجريبية نضطر ،شعرنا ام لم نشعر، للاعتماد على منهج عقلي استنباطي، يعتمد البديهيات والقبليات العقلية الغير خاضعة للتحقق التجريبي الحسّي، كما هو الحال في الرياضيّات والفلسفة
من هنا، فإنّ أيّ عالم يمارس نشاطا كوسمولوجيا (علم الكونيات)، أو يمارس نشاطا معرفيا فيما اطلق عليه (الفيزياء النظرية)؛ اي الفيزياء غير التجريبية المحضة، والتي تدخل فيها التحليلات والاستنتاجات العقلية... كل من يقوم بذلك، يخرج عن كونه عالما تجريبيا، بوصفه يمارس عملا عقليّا استنباطيّا. ولذلك فإنّ ما ينتجه العالم ،حينئذ، بخصوص هذه الحيثية (الغير تجريبية)، يخرج بطبيعته الأبستمولوجية (المعرفية) عن نطاق اختصاصه، ولا يعتبر أمرا من اختصاصاته العلميّة المحضة.
ولذلك فإنّ كل من له القدرة المنطقية والعقلية مؤهّل للخوض في هذه الحيثية أيضا، إذا توافرت المعطيات والمقدّمات ذات الصلة، بل انه قد يكون أكثر قدرة من العالم المتخصص في هذا الجانب، بامتلاكه قدرات منطقيّة متماسكة ومتميّزة.
ليس بالضرورة ،إذن، أن يكتسب كلام عالم فيزيائيّ كبير ومعروف حول أصل الكون ونشأته، القيمة المعرفية التي تؤهله للمصداقية والواقعيّة. ولعلّ ما يؤكّد ذلك عدم صمود الكثير من الرؤى الصادرة من بعض علماء كبار في الفلك والفيزياء... واختلاف العلماء لدرجة التنافي التام على هذا الصعيد؛ ففي الوقت الذي أحال بعضهم الكون إلى الصدفة؛ رفض البعض الآخر ذلك وقال بوجود قدرة مصمّمة وراءه. كما أنّ النظرية العلمية المعتمدة في كل مرحلة، تلقي بظلالها على آراء العلماء في أصل الكون وغايته؛ فعندما اشتهرت نظرية الأكوان المتعدّدة؛ غلب القول بالصدفة على الساحة،. وعندما اعتمدت نظرية الانفجار العظيم غلب الرأي المعاكس.
إنّ الرأي الوازن في بناء تصور كليّ شامل للكون، لايتقوّم في بنيته المعرفيّة على اختصاص علميّ، وإنّما يخضع لامتلاك القدرة الاستدلالية العقليّة والتماسك المنطقي، وهذا ما يمكن أن يمتاز به الفيزيائي والفلكي و..غيرهما على حدّ سواء. نعم، يبقى للعالم ميزة الاطلاع على دقة الأثر وتفاصيله وتنظيمه؛ ممّا يمكّنه أكثر من غيره امتلاك معطيات ومقدمات ينطلق منها في بناء استدلالاته العقلية المنطقية.
أختم بقول للفيزيائي الانكليزي الكبير (بول ديفيز) كتبه في الغارديان:
"تبقى القوانين المطروحة غير قابلة للتفسير!! هل نقبلها هكذا كمعطى خالد؟ فلماذا لا نقبل الله [ إذن]؟!! حسنا وأين كانت القوانين وقت الانفجار الكبير؟!! إنّنا في هذه النقطة نكون في الحياة الموحلة!"
جمال صالح جزان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء