الغرب والتجليّات الأعنف للاستكبار الفرعوني
.......................................................................................
لايمكن للنموذج الغربي، بكلّ تجليّاته، أن ينفكّ عن حقله التاريخي والاجتماعي الذي نشأ وتبلور فيه، وكوّن على أساسه رؤيته الفلسفيّة للعالم والإنسان والحياة...
على ضوء هذه الحقيقة يصبح فهم سياقات تشكّل العقل الغربي ضرورة معرفيّة وحضاريّة، لتجاوز اللحظة الانفعاليّة التي يعيشها الكثيرون ممّن يتغنّون بهذا النموذج...
وبعيدا عن التجاذب والاستقطاب، تمثّل هذه الدعوة عودة صادقة لاستجلاء المشهد كاملا؛ إذ لعلنا نتمكّن من مواكبة الآخر على أسس منهجيّة وموضوعيّة، ترسم لنا الطريق الواضحة في تحديد موقعنا ودورنا في منظومة العلاقات الحتميّة التي تجمعنا به، ولاسيّما في زمن الانفتاح الذي نعيشه. وعسانا ،بوعينا بهذه المواكبة، نضع أيدينا على مواطن الاستلاب والتبعيّة لتجنّب مخاطرها وويلاتها. فعلى الرغم من احترامنا للإنسان في الغرب ،وفي كل مكان، فإنّ التجربة الغربية ،التي تمكّنت من السيطرة الطبيعيّة المادّية معتمدة على عقل القوة ومرجعيّته الفلسفيّة في نموذجها "النيتشويّ" الذي آلت إليه؛ أوصلت الإنسانيّة الى ذروة الاختناق، وأغلقت الأبواب في وجه التطلّعات الوجدانيّة والمعرفيّة التي قامت عليها النزعة الإنسانيّة، منذ انطلاقتها في عصر النهضة.
لانريد تظهير صورة عدميّة مطلقة، لكنّنا عندما ننطلق من البعد الحضاري الإنساني الذي يعلنه الغرب ويسوّق بضاعته باسمه، نجد أنفسنا على حق في تشخيصنا السابق والتحذير من تبعاته.
إنّ مجرّد التمسّك بالإنسان ومشروعه الحضاريّ، يجعل من الانفتاح على القيم التي يحملها هذا العنوان أمرا ضروريّا؛ على صعيد الهدف والغاية والمنهج، ويملي على صاحب المشروع التزام التشاركية والتفاعل البنّاء للوصول إلى المشتركات الإنسانيّة، بعيدا عن الإقصاء، والهيمنة، والتسلّط.
وبعبارة أخرى: لايمكن لمن ينطلق من أرضيّة إنسانيّة جامعة، إلا أن يتّبع منهجا عالميّا، وبالتالي، لابدّ وأن تتّخذ علاقاته وارتباطاته بالآخر مسارا تفاعليّا تساهم فيه الأطراف جميعا، طالما الانتماء إلى الطبيعة الإنسانيّة قائما. وأيّ محاولة لتجميد الحركة والاستئثار بمنشئها وتوجيهها، سيغلّب الخصوصيّات الثقافيّة، والزمانيّة، والمكانيّة الجغرافيّة، ويجعل من المشروع قوّة هيمنة وقهر، لا دوحة تحضّر تحتضن الجميع.
لو أردنا تشخيص ماهيّة النموذج الغربي ومركزيّته السائدة، على ما تقدّم؛ لن نجد عناء في عمليّة تصنيفه، إذا ما انطلقنا من الواقع وتجلّياته. ويكفينا لتحقيق مبتغانا هذا معلمان واقعيّان أساسيّان:
أولا: عملية التوزيع العالميّة الجائرة التي تمأسست على إيقاع حركة "الاستعمار" المدمّرة، والتي قسّمت العالم إلى الثنائية المبتذلة (عالم متقدّم - عالم ثالث)! وجسّدت مطيّة فجّة في ظلمها، ووحشيّتها، وإفقارها أكثر من ثمانين بالمئة من سكان العالم، في سبيل تغوّل البقيّة!!
الثاني: ولعلّه الأهم باعتباره السبب الذي يقف وراء المشهد الأول؛ ألا وهو تفكيك الإنسان ،ولاسيّما في الغرب نفسه، كما يعبّر (عبد الوهاب المسيري) في كتابه المعروف (الفلسفة المادّيّة وتفكيك الإنسان)، وتجريده من إنسانيّته، ليصبح مجرّد مخلوق مستهلك، يعيش العدميّة والتشيّؤ، والعبثية! من خلال مخاض اجتماعي ثقافي فكري طويل، أقصي فيه الأخلاقي والوجداني الإنساني من قاموس القيمة المعرفية والاجتماعيّة تدريجيا، لخلق وثن جديد يناسب العصر وتطوّراته؛ ألا وهو العلم، القاصر بطبعه عن وضع إجابات ،تليق بأعظم المخلوقات، والغاية التي خلق لأجلها!
أظنّ ،ولعلّ الكثيرين يوافقونني، أنّ المركزيّة الغربيّة لم تتردّد في الإفصاح عن وجهها الحقيقي، الأقرب في حركته ومنطلقاته، إلى(رعاة البقر) الأميركيين، وعملهم في إجبار "القطعان" على صعود قطار الليبرالية، تماما كما بشّر (فوكوياما) حينما أعلن (نهاية التاريخ)، ليختصره في رحلة (الكنز)، التي آلت قيادتها مؤخرا إلى (ترامب)، ونسخه في العالم الغربي... فأي نموذج ذلك الذي نستجديه؟!
جمال صالح جزان
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء